عبء المليارات: حين تتحول “الأموال الساخنة” من أمل إلى كابوس اقتصادي

كانت كأنها نسمة منعشة، رياح محملة بوعود الرخاء، تدفقات مالية ضخمة دخلت السوق المصرية في فترة سابقة، حاملة معها تفاؤلاً حذرًا بقدوم عصر جديد من الاستقرار الاقتصادي. الجميع كان يتحدث عن مليارات الدولارات التي وصلت، كدليل على ثقة العالم في اقتصادنا. لكن، هل كل ما يلمع ذهبًا؟ وهل دائمًا ما تبدو الحلول السريعة بنفس جاذبيتها بعد فوات الأوان؟ اليوم، يتبين أن هذه “النسمة” قد تحولت إلى عاصفة، وهذه الأموال التي ظن البعض أنها طوق نجاة، أصبحت عبئًا ثقيلاً يهدد استقرارنا.

بالتحديد، نتحدث عن قرابة 46 مليار دولار، تُعرف اقتصاديًا باسم ‘الأموال الساخنة’. وإذا سألتني ‘إيه الأموال الساخنة دي بالظبط؟’ ببساطة كده، هي استثمارات بتدور على أسرع وأعلى عائد ممكن في أي سوق، وبتكون مستعدة للهروب في غمضة عين مع أول إشارة لتغير في الأوضاع أو أسعار الفائدة. كانت مصر قد نجحت في جذب هذه الأموال بفضل أسعار الفائدة المرتفعة التي قدمتها، ولفترة من الزمن، شعرنا بالراحة؛ فاحتياطي النقد الأجنبي بدا قوياً، وكانت رسالة واضحة للعالم: ‘مصر مكان جيد للاستثمار’. لكن هذا الوجه المشرق يخفي وراءه كلفة باهظة ومخاطر جمة، فما بدا وكأنه مؤشر ثقة، صار اليوم حملاً يثقل كاهل الاقتصاد الوطني.

العبء الحقيقي يكمن في الفوائد السنوية التي يتعين على الدولة سدادها على هذه المبالغ الضخمة. تخيلوا معي، هذه الفوائد تتراوح بين 9 و14 مليار دولار كل عام! لو ترجمنا هذا الرقم للجنيه المصري، بنتكلم عن مبلغ يتراوح بين 442 و664 مليار جنيه، يعني تقريباً نص تريليون جنيه في الحد الأدنى، وممكن يوصل أكتر من كده بكتير. هذا المبلغ يضع صناع القرار أمام معضلة حقيقية، أشبه بالوقوف على حافة هاوية، فلا مفر من أحد خيارين، كلاهما أصعب من الآخر.

فإما أن تقوم الدولة بتغطية هذه الفوائد بالجنيه المصري، وهو ما يعني ضخ مئات المليارات في شرايين الاقتصاد دون أن يقابلها أي إنتاج حقيقي ملموس. وماذا ستكون النتيجة؟ موجة تضخمية عاتية تجتاح الأسواق، تلتهم القوة الشرائية للمواطن، وتزيد من تآكل قيمة العملة الوطنية. يعني ببساطة، فلوس كتير بتجري ورا سلع قليلة، وده بيخلي كل حاجة سعرها يزيد بشكل جنوني. أو أن تلجأ الدولة للخيار الثاني، وهو السداد بالدولار. وهذا يعني استنزاف جزء كبير من الاحتياطي الأجنبي، الذي نحتاجه بشدة لتلبية التزاماتنا الخارجية الضرورية واستيراد السلع الأساسية. أيهما أصعب؟ كلاهما ينذر بتداعيات اقتصادية خطيرة، وكأننا بنهرب من النار ندخل في الرماد.

الأمر يزداد تعقيدًا عندما ننظر إلى حجم السيولة النقدية المتداولة بالفعل في السوق المصرية. هذا الرقم تجاوز بالفعل 12 تريليون جنيه! ومع هذا الكم الهائل من النقود، فإن أي توسع إضافي في الكتلة النقدية – كتلك التي قد تنتج عن دفع الفوائد بالجنيه – يترجم مباشرة إلى موجات تضخمية جديدة تزيد من هشاشة الوضع المالي العام. بصراحة، الناس خلاص تعبت من زيادة الأسعار اللي مابتوقفش، وهذا الوضع يؤدي إلى اهتزاز الثقة في الجنيه المصري، ويجعل المستثمرين وحتى المواطنين يبحثون عن ملاذات آمنة لمدخراتهم بعيدًا عن العملة المحلية. هذه السيولة المتضخمة لا تضاعف الضغوط فحسب، بل تُعمِّق أزمة الثقة التي لا تقل خطورة عن الأزمات الاقتصادية المباشرة.

هنا تكمن الإشكالية الجوهرية: الأموال الساخنة لم تثبت يومًا أنها حل مستدام أو خيار آمن لأي اقتصاد يسعى للاستقرار والنمو الحقيقي. هي أشبه بمسكن للآلام، يريحك لبعض الوقت، لكنه لا يعالج المرض الأساسي بل قد يزيد من تعقيداته على المدى الطويل. إنها استثمارات انتهازية، تبحث عن عائد سريع ومضمون، وتتحرك بمرونة وخفة من سوق لآخر فور ظهور أي تغيرات في أسعار الفائدة العالمية أو الأوضاع الجيوسياسية. يعني يا جماعة، مفيش ضمان إن الفلوس دي هتفضل موجودة. زي ما دخلت بسرعة، ممكن تخرج أسرع، وتترك وراءها فراغًا وضغطًا أكبر على احتياطي العملة الصعبة.

إذًا، ما هو البديل؟ الطريق الأكثر أمانًا لاستقرار النقد الأجنبي وتحصين الاقتصاد الوطني لا يكمن في ملاحقة تدفقات المضاربة الهشة، بل في بناء أساسات اقتصادية صلبة. هذا يعني التركيز الجاد على ثلاثة محاور رئيسية لا غنى عنها: أولاً، تعزيز الاستثمار المباشر الذي يضيف طاقات إنتاجية حقيقية للاقتصاد ويخلق فرص عمل مستدامة. ثانيًا، دعم الصناعة الوطنية بكل السبل الممكنة، لتكون قادرة على المنافسة محليًا وعالميًا. وثالثًا، توسيع قاعدة الصادرات المصرية لتشمل المزيد من المنتجات والأسواق. هذه المحاور الثلاثة، وحدها القادرة على توفير مصادر مستدامة وثابتة للدولار، وتحصين الاقتصاد ضد تقلبات الأسواق المالية العالمية التي لا ترحم.

في النهاية، يبدو أن الدرس واضح المعالم: الاعتماد على “المسكنات” الاقتصادية قد يوفر راحة مؤقتة، لكنه يتركنا في مواجهة مشاكل أكبر وأكثر تعقيدًا. إن اللحظة الراهنة تتطلب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، لا تكتفي بوضع الضمادات على الجروح، بل تسعى لعلاج المرض من جذوره. فالهدف الأسمى ليس فقط جذب الدولارات، بل ضمان استقرارها واستدامتها بما ينعكس إيجابًا على قيمة الجنيه المصري، وعلى القدرة الشرائية لكل مواطن. هذا هو التحدي الحقيقي، وهذا هو المسار الذي يجب أن نسلكه إذا أردنا بناء اقتصاد قوي ومرن، لا يتأثر بأي رياح عابرة. وكما أشارت الدكتورة نيرمين طاحون، الشريك المؤسس لطاحون للاستشارات القانونية، فإن الحل يكمن في الاستثمار الحقيقي والإنتاج، لا في المراهنات المالية.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.