في عالم الاستثمار المتقلب، حيث تتراقص الأسعار على إيقاع مخاوف اقتصادية متصاعدة، تلوح في الأفق إشارات قد تغير قواعد اللعبة لمن يمتلكون بصيرة كافية لالتقاطها. فجأة، نجد أنفسنا أمام مشهد غير متوقع: اثنان من أكبر عمالقة عالم المال، أحدهما يُلقب بـ “الأب الغني” والثاني “عرّاب أوماها”، يتبادلان المواقع، أو على الأقل، يبدو أن أحدهما بدأ يقتدي بنصائح الآخر بعد سنوات من الجدال.
روبرت كيوساكي، المؤلف الشهير لكتاب “الأب الغني والأب الفقير”، والمعروف بدفاعه الشرس عن العملات المشفرة والمعادن الثمينة، أطلق مؤخرًا صيحة تحذير مدوية. لكن صيحته هذه المرة لم تكن بسبب توقعاته المعتادة بانهيار الأسواق فحسب، بل كانت ردًا على ما اعتبره تحولًا جذريًا في موقف وارن بافيت، أيقونة الاستثمار القيمي، تجاه الذهب والفضة. هذا التحول، بنظر كيوساكي، ليس مجرد تغيير في الرأي، بل هو بمثابة جرس إنذار حقيقي ينبئ بكارثة اقتصادية وشيكة.
تحول مفاجئ أم حكمة متأخرة؟
من منا لم يسمع عن وارن بافيت ونظريته “الاستثمار في القيمة”؟ لطالما اشتهر “عرّاب أوماها” بازدرائه للذهب، واصفًا إياه بأنه مجرد “صخرة لا تُنتج شيئاً”، مفضلًا الاستثمار في الشركات المنتجة التي تولد الأرباح. لكن يبدو أن الرياح تغيرت، وباتت تدفع بسفينته نحو موانئ لم تكن في حسبانه. فهل يُعقل أن يتحول بافيت، هذا الرجل الذي بنى إمبراطورية “بيركشاير هاثاواي” على مبادئ ثابتة، بهذا الشكل الجذري؟
الأمر لم يكن مزحة. فخلال جائحة كوفيد-19 التي هزت العالم، كشفت شركة بيركشاير هاثاواي عن استثمار يتجاوز 500 مليون دولار في شركة التعدين العملاقة “باريك جولد كورب”. واليوم، وبعد أن شهدت أسعار الذهب والفضة ارتفاعات قياسية تتراوح بين 45% و50% منذ مطلع عام 2025، تتجه أنظار “بيركشاير” بجدية أكبر نحو المعادن النفيسة. هذا التحول، بنظر كيوساكي، يعني شيئًا واحدًا: الأسواق على وشك الانهيار.
صوت كيوساكي يرتفع: اشتروا قبل فوات الأوان!
في رسالته الأخيرة على منصة X (تويتر سابقًا)، لم يخفِ كيوساكي ذهوله وصدمته من تحول بافيت، واصفًا شعوره بأنه “يريد أن يتقيأ” من سماع بافيت يمتدح الذهب والفضة بعد سنوات من السخرية. لكن خلف هذا الانزعاج الظاهري، تكمن رسالة واضحة للمستثمرين: حان الوقت للاستعداد.
يؤكد كيوساكي على ضرورة اقتفاء أثر بافيت، ولكن ليس بالمعادن النفيسة فقط. لقد أشار إلى أن الوقت قد يكون مناسباً لشراء المزيد من البيتكوين والذهب والفضة، بل والإيثريوم أيضاً، كأدوات تحوط فعّالة في مواجهة الانهيار المتوقع في سوق الأسهم والسندات. لقد وصف كيوساكي البيتكوين، التي طالما دافع عنها بشغف، بأنها “عبقرية خالصة” في تصميمها، مؤكداً قدرتها على الازدهار كأصل تحوّطي في زمن الاضطرابات المالية، بينما يتوقع تراجعاً في قيمة الدولار الأمريكي. يعني بالبلدي كده، هو شايف إن البيتكوين دي حاجة كده “لوز العنب” في الأوقات الصعبة.
الأسباب الجذرية: هل يخشى بافيت انهيار العملات الورقية؟
ولفهم أبعاد هذا التحول، علينا أن ننظر إلى الصورة الأكبر. فـ “بيركشاير هاثاواي” ليست فقط تستثمر في الذهب، بل لقد راكمت احتياطيًا نقديًا قياسيًا بلغ ما بين 344 و348 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، مقارنة بـ 167 مليار دولار في عام 2024. هذا الاحتياطي النقدي الهائل يُعد بمثابة مؤشر قوي على أن بافيت وفريقه يرون أن معظم الأسهم في السوق مبالغ في قيمتها حاليًا، وأنهم يتحسبون لموجة تصحيح كبيرة.
وهنا يأتي تعليق الخبير المالي “شانكا بيريرا” ليضيء جانبًا آخر من الحقيقة. حيث قال بيريرا، ردًا على تصريحات كيوساكي: “إذا كان بافيت يتجه الآن إلى الذهب بعد عقود من الازدراء، فالإشارة ليست المعادن النفيسة… بل انهيار العملات الورقية.” وهذا الكلام ده بصراحة “يخض الواحد” لأنها فكرة كبيرة، إن العالم ممكن يبقى داخل على أزمة في قيمة الفلوس اللي في أيدينا.
هذا التفسير يجد صدى له في تحركات البنوك المركزية حول العالم، التي قامت هذا العام بشراء الذهب بأرقام قياسية، في محاولة للتحوط بعيدًا عن الدولار الأمريكي الذي يواجه تحديات متزايدة. فهل هذه مجرد مصادفة؟ أم أن كبار اللاعبين في العالم المالي يجهزون أنفسهم لسيناريو لا يجرؤ الكثيرون على تخيله؟
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟
الصورة واضحة: هناك قلق عميق يسود أروقة كبار المستثمرين حول استقرار الأسواق المالية والعملات الورقية. سواء كنت من مؤيدي الذهب والفضة، أو من عشاق العملات الرقمية مثل البيتكوين والإيثريوم، فإن الرسالة الأساسية التي يبعث بها كيوساكي – وبطريقة غير مباشرة بافيت – هي ضرورة التنويع والتحوط.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل سيقرر بافيت في نهاية المطاف نقل جزء كبير من احتياطياته النقدية المقومة بالدولار إلى المعادن النفيسة؟ وإذا حدث ذلك، فما هي آثاره على الأسواق العالمية؟ هذه التحولات في مواقف الكبار ليست مجرد أخبار عابرة، بل هي إشارات قوية تدفعنا لإعادة تقييم استراتيجياتنا المالية.
في النهاية، يبقى لكل مستثمر قراره، لكن صوت الحكمة – سواء من “الأب الغني” الذي يرى عبقرية في العملات المشفرة، أو “عرّاب أوماها” الذي يعيد النظر في المعادن التقليدية – ينادي بضرورة التأهب والاستعداد لمستقبل مالي قد يكون مليئًا بالمفاجآت. فهل نرى بداية تحول عالمي نحو أصول أكثر صلابة في مواجهة بحر متلاطم من العملات الورقية المتذبذبة؟ هذا هو التساؤل الجوهري الذي يستدعي تفكيرًا عميقًا من كل واحد منا.