هل نحن على أعتاب تحوّل تاريخي في عالم المال؟ سؤال يفرض نفسه بقوة مع كل نبضة سعرية للعملات الرقمية، ومع كل تطور سياسي واقتصادي يلقي بظلاله على الأسواق. ففي صباح يوم الخميس، الثاني من أكتوبر 2025، استيقظ العالم على مشهد جديد يؤكد هذه الفرضية: قفزةٌ مدوّية لبيتكوين تجاوزت حاجز الـ 118 ألف دولار، لتسجل 118,595 دولاراً أمريكياً، محققة مكاسب تفوق 4% في الساعات الأولى من التداولات الآسيوية وحدها، بعد أن أغلقت جلسة الأمس عند 114,286 دولاراً.

هذا الصعود لم يكن معزولاً، فقد سبقه زخم قوي في جلسة الأربعاء، حيث ارتفعت بيتكوين بنسبة 2.9%، بينما قفزت إيثريوم، شقيقتها الكبرى في عالم العملات المشفرة، بأكثر من 5.5%. مؤشرات واضحة ترسم لوحة مستقبلية لمستويات قياسية جديدة قد تسجلها هاتان العملتان خلال شهر أكتوبر الجاري، لتتجاوز التوقعات وتكسر الحواجز النفسية التي كانت قائمة.

ولكن ما الذي يدفع هذه السفينة الرقمية نحو شواطئ المجد؟ ببساطة، عوامل متعددة تضافرت لتشكل هذه العاصفة الإيجابية. في مقدمتها، تدفقت عمليات شراء ضخمة تُقدر بمئات الملايين من الدولارات مع بداية الشهر، ما أحدث طفرة غير مسبوقة في الطلب. لكن هذه ليست القصة كاملة؛ فالعامل الأهم الذي يضخ الوقود في محركات هذه العملات كان، ولا يزال، الشلل الحكومي الذي يضرب الولايات المتحدة الأمريكية. عندما تتوقف عجلة الإدارة الحكومية عن الدوران، يزداد الطلب على الأصول التي تُعتبر “ملاذاً آمناً” بعيداً عن تقلبات السياسات التقليدية، ويشمل ذلك الذهب، وبالطبع، العملات الرقمية.

تخيل معي للحظة: كيف يمكنك قيادة سفينة عملاقة في محيط مضطرب بلا بوصلة؟ هذا هو حال الاقتصاديين وصناع السياسات والمستثمرين في ظل التعليق الحكومي الأمريكي. فالشلل لا يقتصر تأثيره على مكاتب الموظفين وحسب، بل يهدد بتعليق إصدار البيانات الاقتصادية الحيوية التي يعتمد عليها البنك الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ قراراته المصيرية بشأن السياسة النقدية. هذا الفراغ المعلوماتي يترك الجميع في حيرة، ويجبرهم على الاعتماد على مصادر بيانات غير حكومية. وكمثال على ذلك، جاء تقرير “ADP” الصادر يوم الأربعاء، ليكشف عن انخفاض حاد في وظائف القطاع الخاص خلال سبتمبر، ما أضاف طبقة أخرى من القلق وعدم اليقين في المشهد الاقتصادي العام.

وفي خضم هذا المشهد المعقد، يبرز صوتٌ يثير الجدل ويحمل رؤية فريدة، إنه إريك ترامب، نجل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. يرى إريك ترامب أن الارتفاع الهائل في استخدام العملات المستقرة (Stablecoins) هذا العام، والذي وصل إلى ما يقارب 300 مليار دولار، بزيادة تقارب 40% منذ بداية العام، ويُغطي 99% منها بالدولار، ليس سوى دليل قاطع يدعم هيمنة الدولار كعملة احتياط عالمية. كيف ذلك؟

بحسب رؤيته، تُسهم هذه العملات المستقرة، المدعومة بالدولار، في خلق طلب إضافي على أدوات الدين الأمريكية، وهو ما يُعتبر قوة دفع حقيقية للاقتصاد الأمريكي. بعبارة أخرى، يراهن ترامب الابن على أن هذا الطلب العالمي المتزايد على العملات المستقرة سيعمل بمثابة “كتلة توازن” لسوق السندات الأمريكية. كأنك تضيف أعمدة دعم جديدة لمبنى عتيق، ليُصبح أكثر متانة وقدرة على الصمود. فدخول هذه الأصول إلى عالم المدفوعات والتسويات، يعوض تراجع شهية بعض كبار الدائنين الأجانب للسندات الأمريكية، ويعزز الطلب على أذون وسندات الخزانة، حتى في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة والجدل التنظيمي المحيط بالقطاع.

وما عزز من هذه الشرعية والثقة كان إقرار “إطار تنظيمي جديد” أُطلق عليه اسم “قانون جينيوس” (Genius Act) خلال فصل الصيف. هذا القانون منح سوق العملات المستقرة شرعية أوسع وأزال الكثير من الغموض التنظيمي الذي كان يعيق نموها. ومنذ ذلك الحين، تسارع نمو السوق بشكل ملحوظ، ليصبح قطاعاً بالغ الأهمية لا يمكن تجاهله.

لكن رؤية إريك ترامب لا تخلو من تحذيرات. فهو يدرك أن أي إدارة أمريكية لاحقة قد تحاول التراجع عن بعض الإصلاحات المؤيدة للأصول الرقمية. فالمسار ليس سهلاً ولا مضموناً. الحل، من وجهة نظره، يكمن في ترسيخ القواعد واستكمال البنية التحتية لهذا القطاع حتى يصبح كبيراً بما يكفي، ومترسخاً لدرجة يصعب معها على أي جهة حكومية أن تتراجع فجأة عن مسارها التنظيمي. يعني، من الآخر، خلي القطاع ده يكبر ويثبت نفسه لدرجة إن محدش يقدر يوقفه أو يرجعه لورا.

في النهاية، ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لنا كأفراد أو مستثمرين؟ إننا نشهد لحظة مفصلية تتضافر فيها التكنولوجيا المالية مع الأحداث السياسية والاقتصادية الكبرى. فالقفزة الكبيرة في العملات الرقمية ليست مجرد أرقام على الشاشة، بل هي مؤشر على تحول في كيفية رؤية العالم للمال، ودور التكنولوجيا في حمايته وتنميته، خاصة في أوقات الأزمات. هل هذا هو الواقع الجديد؟ وهل ستستمر هذه الأصول الرقمية في إعادة تشكيل المشهد المالي العالمي؟ الأيام القادمة بالتأكيد ستحمل لنا الإجابات. لكن المؤكد أن العملات الرقمية، والعملات المستقرة تحديداً، لم تعد مجرد “فقاعة” أو “نزوة”، بل أصبحت لاعباً أساسياً على طاولة الاقتصاد العالمي.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.