في مشهد اقتصادي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، حيث تتلاطم أمواج القلق السياسي وتتراقص المؤشرات الاقتصادية على حبل مشدود، حدث ما لم يكن متوقعًا للبعض: العملات الرقمية، هذا العالم الموازي الذي لطالما أثار الجدل، شهدت قفزة ملحوظة يوم الأربعاء. فبينما كانت سحب الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة تخيّم بثقلها على الأفق، وتُطلق تحذيرات من تأثيرها السلبي المحتمل على الاقتصاد العالمي، اختارت “الكريبتو” مسارًا معاكسًا تمامًا، وكأنها ترقص منفردة على أنغامها الخاصة. يا ترى إيه اللي بيحصل بالظبط؟ هل هو تمرد على الواقع، أم مؤشر على استقلالية متزايدة لهذه الأصول الرقمية؟
تخيل معي، الأسواق التقليدية عادة ما تكون حساسة لأي اضطراب سياسي أو اقتصادي. فما بالك بإغلاق حكومي في أكبر اقتصاد في العالم؟ اليوم، دخل الإغلاق الفيدرالي الأمريكي حيز التنفيذ، وهو حدث ليس بالهين أبدًا. تأثيراته لا تقتصر على مجرد توقف بعض الخدمات، بل تمتد لتشمل بيانات اقتصادية حيوية. أحد أبرز الضحايا المحتملين لهذا الإغلاق هو “تقرير الوظائف الشهري” الذي يصدر عن مكتب إحصاءات العمل، والذي كان من المفترض أن يرى النور يوم الجمعة. تخيل مدى أهمية هذا التقرير في رسم صورة واضحة لسوق العمل، وفي اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية كبرى، والآن قد لا يُنشر في موعده. الأمر ده ممكن يعمل حالة عدم يقين كبيرة.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، أدلت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني بدلوها، لتقدم لنا لمحة عن رؤيتها للمستقبل القريب. صرحت الوكالة بأن الإغلاق الحالي لن يترك بصمته على التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة على المدى القريب. خبر حلو، مش كده؟ لكن لا تفرح كثيرًا، فقد أعقب هذا التصريح تحذيرًا لا يقل أهمية، مفاده أن الإغلاق يمتلك تأثيرًا سلبيًا لا يمكن تجاهله على الاقتصاد الكلي. يعني باختصار، التصنيف ممكن يكون ثابت دلوقتي، بس العواقب الاقتصادية الأوسع نطاقًا ممكن تكون وخيمة على المدى الطويل، ودي نقطة تستاهل إننا نفكر فيها بجدية.
ولكي تكتمل الصورة، دعونا نلقي نظرة فاحصة على بعض البيانات الاقتصادية التي صدرت اليوم، والتي ربما تفسر جزءًا من حالة القلق العامة في الأسواق التقليدية. ففي سوق العمل، الذي يُعتبر شريان الحياة لأي اقتصاد، جاءت الأخبار محبطة بعض الشيء. كشفت بيانات صادرة عن مؤسسة “إيه دي بي” (ADP) أن القطاع الخاص الأمريكي شهد فقدان 32 ألف وظيفة خلال شهر سبتمبر الماضي. الرقم ده صادم، خصوصًا لما تعرف إن التوقعات كانت تشير إلى إضافة 50 ألف وظيفة جديدة! يعني في فرق 82 ألف وظيفة بين الواقع والتوقعات، وده رقم مش قليل أبدًا. والمفاجأة لم تتوقف هنا، فقد تم تعديل بيانات شهر أغسطس لتظهر فقدان 3 آلاف وظيفة، بعد أن كان التقرير السابق قد أشار إلى إضافة 54 ألف وظيفة. أرقام متضاربة ومراجعات سلبية، تخلي الواحد يتساءل: هل سوق العمل الأمريكي يواجه رياحًا معاكسة أقوى مما نتخيل؟
أما في القطاع الصناعي، فالمؤشرات لم تكن أفضل حالًا. أظهرت بيانات صادرة عن معهد إدارة التوريد (ISM) ارتفاع مؤشر مديري المشتريات بالقطاع بمقدار 0.4 نقطة مئوية، ليصل إلى 49.1 نقطة خلال سبتمبر. للوهلة الأولى قد يبدو الارتفاع الطفيف إيجابيًا، أليس كذلك؟ لكن هنا تكمن التفصيلة المهمة: يظل المؤشر دون مستوى الـ 50 نقطة الفاصل. هذه العتبة السحرية هي التي تفصل بين النمو والانكماش في القطاع الصناعي. أي رقم فوق الـ 50 يعني نموًا، وأي رقم تحتها يشير إلى انكماش. يعني برغم الارتفاع الصغير، القطاع الصناعي لا يزال في منطقة الانكماش، ودي حاجة مش مطمنة أبدًا.
وسط كل هذه الأنباء المقلقة، والتي ترسم صورة رمادية للاقتصاد الأمريكي، كان هناك وميض مشرق في عالم العملات الرقمية. وكأنها سفينة تُبحر في بحر هائج وتنجح في الإفلات من العاصفة. على صعيد التداولات الرقمية، كان نجم “الإيثريوم” يسطع بقوة، مسجلًا قفزة أدهشت الكثيرين. ففي تمام الساعة 21:17 بتوقيت غرينتش، شهد سعر العملة على منصة “كوين ماركت كاب” ارتفاعًا بنسبة 4.3%، ليتجاوز حاجز الـ 4300 دولار ويصل تحديدًا إلى 4335.1 دولار. هذا الأداء القوي في خضم الأزمات يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل بدأت العملات الرقمية تكتسب حصانة ضد تقلبات الأسواق التقليدية، أم أن هذا الارتفاع ليس سوى فقاعة لحظية مدفوعة بمعنويات معينة؟
إن ما نراه اليوم هو حالة فريدة من “فك الارتباط” الواضح بين فئتين من الأصول. فبينما يتخبط الاقتصاد التقليدي في فخ البيانات السلبية والاضطرابات السياسية، تختار العملات الرقمية، وعلى رأسها الإيثريوم، مسارًا تصاعديًا. هل هذا يعني أن المستثمرين بدؤوا ينظرون إلى الكريبتو كملجأ آمن في أوقات الأزمات الاقتصادية، كبديل للذهب مثلًا؟ أم أن الشارع الاقتصادي يعيش حالة من الانقسام، حيث يرى البعض في هذه العملات الرقمية فرصة للتحوط ضد التضخم أو عدم اليقين، بينما لا يزال آخرون يعتبرونها أصولًا شديدة التقلب ومحفوفة بالمخاطر؟
في النهاية، يبدو أن الأسواق تروي لنا قصتين مختلفتين تمامًا في الوقت ذاته. قصة عن اقتصاد تقليدي يواجه تحديات جسيمة، وقصة أخرى عن عالم رقمي يواصل تحدي الجاذبية الاقتصادية. والسؤال الذي يظل عالقًا في الأذهان هو: أي القصتين ستكون لها الكلمة الأخيرة؟ هل سيستمر هذا الانفصال، أم أنه مجرد هدوء يسبق عاصفة قد تضرب الجميع بلا استثناء؟ كمتداولين ومراقبين، علينا أن نكون حذرين، وأن نقرأ ما بين السطور، ففي عالم الاقتصاد المتغير بسرعة، الأوراق الرابحة قد تتغير في أي لحظة.