تخيل لو كل وجهة سياحية بنزورها، بدل ما نسيب فيها مجرد صور وذكريات حلوة، نسيب كمان أثر إيجابي حقيقي؟ مش مجرد بصمة كربونية أو مبانٍ إسمنتية تشوه جمالها الطبيعي، لأ، أثر يخلي المكان أحلى وأغنى لأهلها وللأجيال اللي جاية. هذا ليس حلماً بعيد المنال، بل هو جوهر مبادرة تتنامى أهميتها يوماً بعد يوم، وتُعرف بـ “السياحة المستدامة”. وقد استضاف برنامج “واجه الصحافة” على شاشة النيل للأخبار، الذي يقدمه الإعلامي محمد أيمن وتترأس تحريره شيرين الشافعي، الدكتور رمضان طنطاوي، الخبير السياحي البارز، ليُسلط الضوء على هذا المفهوم المحوري الذي يُعاد تشكيل وجه قطاع السفر والترفيه حول العالم.

بصراحة كده، أغلبنا لما بنسمع كلمة سياحة، بيجي في بالنا فنادق فخمة، شواطئ رملية، ومعالم تاريخية مبهرة. لكن الدكتور طنطاوي يرفع الستار عن بعد أعمق بكثير. هو يقول إن السياحة المستدامة ليست مجرد دعوة للاستمتاع بجمال العالم، بل هي دعوة للموازنة الدقيقة بين رغبتنا في الترفيه واحترامنا العميق للبيئة التي نزورها والثقافة المحلية لأهلها. إنها فلسفة تسعى لإحداث ذلك التوازن المنشود بين تلبية احتياجات السياح ورغباتهم، وبين الحفاظ على المقدرات الطبيعية والثقافية الفريدة لأي وجهة، وفي الوقت ذاته دعم الاقتصاد المحلي بطرق مستدامة ومُنصفة. الأمر أشبه بمعادلة ثلاثية الأبعاد: متعة المسافر، رفاهية المجتمع المحلي، وسلامة الكوكب. هل يمكننا أن نحقق هذه المعادلة الصعبة؟

يؤكد الدكتور طنطاوي على أن السياحة المستدامة تضع نصب عينيها الحفاظ على المواقع الطبيعية في أبهى صورها. فكر فيها للحظة: ما الفائدة من زيارة الشعاب المرجانية الباهرة إذا كانت نفاياتنا تقتلها ببطء؟ أو التمتع بغابات مطيرة خلابة إذا كانت خطواتنا غير الواعية تدمر نظامها البيئي الهش؟ السياحة المستدامة تسعى لضمان أن تبقى هذه العجائب الطبيعية سليمة ونابضة بالحياة، ليس فقط لنا، بل للأجيال القادمة أيضاً. هي بمثابة عهد بين المسافر والمكان: استمتع، ولكن احترم، واترك المكان أفضل مما وجدته عليه.

لكن الأمر لا يقتصر على البيئة وحسب؛ فالبعد الثقافي والاقتصادي لا يقل أهمية. فالسياحة المستدامة تدعم المجتمعات المحلية بشكل مباشر، وتُعزز من هويتها الثقافية. فبدلاً من أن تستفيد الشركات الكبرى فقط، يتدفق جزء كبير من عائدات السياحة إلى جيوب السكان الأصليين، من خلال تشجيع الحرف اليدوية المحلية، والإقامة في النزل والبيوت التي يديرها السكان، وتجربة المأكولات التقليدية التي يُعدونها. “يعني مش بس بتدعم اقتصاد البلد ككل، لأ، أنت كمان بتدعم الأسر والورش الصغيرة اللي بتورث فنونها من جيل لجيل”، يقول الدكتور طنطاوي موضحاً. هذه هي السياحة التي تترك أثراً اجتماعياً إيجابياً، وتخلق تبادلاً حقيقياً بين الثقافات، بدلاً من مجرد استهلاك سطحي.

وهنا يأتي الحديث عن فكرة مبتكرة يطرحها الدكتور طنطاوي، وهي أن السياحة بمثابة “تصدير للسلع غير المنظورة”. قد يبدو المصطلح غريباً للوهلة الأولى، فكيف نصدر شيئاً لا يُرى؟ يشرح الخبير السياحي أن هذه السلع تتمثل في الهدايا التي يأخذها السائح معه، ليس بالضرورة هدايا مادية ضخمة، بل هي منتجات تعكس روح وهوية الدولة. يتحدث عن المنتجات البيئية اليدوية (الهاند ميد) التي تُصنع بأيدي محلية، وتحمل قصصاً وحكايات من قلب التراث. هذه المنتجات ليست مجرد بضائع، بل هي قطع فنية صغيرة تحمل عبق المكان وتراثه.

وهنا يضيف الدكتور طنطاوي لمسة أخرى مهمة: أهمية عرض هذه “الكنوز غير المنظورة” في الأماكن الحيوية التي يمر بها السياح، مثل المطارات والأسواق الحرة. فلنتخيل سائحاً على وشك المغادرة، وآخر انطباع يأخذه عن البلد هو رؤية تحفة فنية يدوية فريدة، صنعتها امرأة قروية بمهارة توارثتها عن أجدادها، أو قطعة من السجاد تحمل نقوشاً تروي تاريخ حضارة بأكملها. هذه اللحظات والتذكارات هي التي تظل عالقة في الذاكرة، وتُغذي الرغبة في العودة، وتُعزز الصورة الذهنية للبلد كوجهة أصيلة وغنية بالثقافة والتراث. “هو في أحلى من إنك تاخد معاك حتة من روح البلد مش مجرد أي حاجة تانية؟” يتساءل بلهجة مصرية محببة.

في الختام، ما طرحه الدكتور رمضان طنطاوي في حواره مع برنامج “واجه الصحافة” ليس مجرد رؤية عابرة لقطاع السياحة، بل هو خارطة طريق نحو مستقبل أكثر مسؤولية وإنسانية. إنها دعوة لنا جميعاً، كمسافرين أو كأفراد في مجتمعات تستقبل السياح، لإعادة التفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم من حولنا. هل سنظل نرى السفر مجرد هروب مؤقت أو استهلاك سطحي؟ أم سنرتفع بالرحلة لتصبح فرصة للتعلم، والمساهمة، والمحافظة؟ السياحة المستدامة ليست خياراً ترفيهياً، بل هي ضرورة حتمية لضمان استمرار جمال كوكبنا وتراثه الثقافي الغني لأطول فترة ممكنة. فلنكن جزءاً من الحل، ولنتعهد بأن نكون مسافرين واعين ومسؤولين، نترك وراءنا أثراً يُضيء، لا يُمحى.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.