في قلب القاهرة، وعلى ضفاف النيل الذي شهد على تعاقب الحضارات، يبدو أن مصر تستعد لاستقبال موجة ذهبية جديدة، لا من الآثار القديمة، بل من رؤوس الأموال الحديثة. وكأن السحر المصري لا يزال يفتن الأبصار، لكن هذه المرة لا يقتصر تأثيره على السائحين، بل يمتد ليجذب أصحاب الملايين، الذين يرون في أرض الكنانة فرصًا استثمارية لا تُقدر بثمن. هل بدأ القطار الاقتصادي المصري يكتسب سرعة مضاعفة؟ الإشارات كلها تشير إلى ذلك، فاستطلاع حديث كشف عن اهتمام غير مسبوق من أثرياء الخليج، وتحديدًا الإمارات، بضخ مبالغ هائلة في سوق العقارات المصري.
القصة بدأت مع تقرير مفصل صدر عن شركة “نايت فرانك” (Knight Frank) العالمية للاستشارات العقارية، بالتعاون مع “يوغوف” (YouGov). هذا الاستطلاع، الذي شمل عينة من أصحاب الثروات، كشف عن خطط استثمارية ضخمة من قبل مستثمري دولة الإمارات، حيث يعتزمون رصد قيمة إجمالية تصل إلى 709 ملايين دولار أمريكي، ما يعادل 2.6 مليار درهم إماراتي، لشراء عقارات متنوعة في مصر. لكن الأمر لا يتوقف عند الإماراتيين فحسب، فالاستطلاع يشير إلى أن حوالي 1.4 مليار دولار من رؤوس الأموال الخاصة تتدفق بشكل عام نحو السوق السكنية المصرية، ما يؤكد أن مصر باتت وجهة لا يمكن تجاهلها.
ما يميز هذا التدفق الاستثماري ليس فقط حجمه، بل تنوعه أيضًا. فالأثرياء لا يبحثون عن نوع واحد من العقارات، بل يسعون لتكوين محافظ استثمارية متكاملة. بعضهم يطمح لامتلاك منازل فاخرة للغاية، تلك التي تُحسب بالملايين، بينما يتجه آخرون نحو العقارات الأكثر ملاءمة من حيث الأسعار. “ناس عايزة برج سكني على النيل، وناس عايزة شقة حلوة في مكان مميز”، هكذا تتلخص الصورة. ولنتخيل هذا التباين: 23.7% من الأثرياء المشاركين في الاستطلاع أبدوا نيتهم إنفاق أقل من مليون دولار على منزل في مصر، بينما يخطط 18.6% آخرون لشراء عقار تتراوح قيمته بين 30 و50 مليون دولار! هل هذا يعكس ثقة في مختلف شرائح السوق، أم هو مجرد رغبة في تنويع المخاطر والأصول؟
المنافسة على المرتبة الأولى في حجم الاستثمار كانت مثيرة للاهتمام. تصدر المستثمرون الإماراتيون المشهد، مشكلين 30% من هذا التوجه العالمي نحو العقارات المصرية. وجاء في المرتبة الثانية أثرياء ألمانيا بنسبة 20%، وهو رقم قد يفاجئ البعض، لكنه يؤكد على جاذبية السوق المصري عابرة للقارات. وعند الحديث عن متوسط الميزانيات المخصصة، كان الألمان هم الأكثر سخاءً بمتوسط 17.7 مليون دولار لكل استثمار، تبعهم الإماراتيون بمتوسط 16.2 مليون دولار، ثم السعوديون بمتوسط 9.4 ملايين دولار. هذه الأرقام، بصراحة، توضح حجم الثقة والإمكانيات التي يرى فيها هؤلاء المستثمرون سوق العقارات المصري.
ولكن أين تتجه هذه الاستثمارات بالضبط؟ القطاع السكني يتصدر بلا منازع قائمة الأولويات. نتائج الاستطلاع أكدت أن 61% من الأثرياء في الإمارات والسعودية يستهدفون هذا القطاع بالدرجة الأولى، يليه سوق المكاتب بنسبة 49%، ثم الإقامات المميزة بنسبة 45%. الأمر يصبح أكثر دقة عندما ننظر إلى شرائح الثروة المختلفة: الأثرياء الإماراتيون والسعوديون الذين تتجاوز ثرواتهم 10 ملايين دولار يفضلون “الوحدات السكنية ذات العلامة التجارية” (Branded Residential Units) بنسبة 60%، بينما يفضل من تتراوح ثرواتهم بين 500 ألف إلى 5 ملايين دولار الاستثمار في القطاع السكني التقليدي. “يعني اللي معاه كتير بيدور على البراندات، واللي معاه برضه كتير بس مش قد اللي فات بيبص على السكني العادي”، هكذا ببساطة.
في القاهرة الكبرى، يغلي سوق العقارات السكنية بحيوية متزايدة، مدفوعًا بثقة قوية من المطورين وخطط تمويل جذابة للمشترين. المشهد الحالي يتضمن 244 ألف وحدة معروضة للبيع ضمن 155 مشروعًا، وهو ما يعكس حجم النشاط. وتوقعات “نايت فرانك” تزيد من حماسنا، حيث تتوقع تسليم 30.83 ألف وحدة في عام 2025، بزيادة قدرها 29% مقارنة بالوحدات التي سُلمت في عام 2024. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام، بل هي مؤشرات على نمو مطرد وتفاؤل بالمستقبل.
لا يمكننا الحديث عن جاذبية العقارات المصرية دون الإشارة إلى سحر العقارات الساحلية. إنها عامل جذب رئيسي للأثرياء عالميًا، حيث يخطط نحو 51% من المشترين لاستخدام هذه العقارات كمنازل ثانية أو مساكن لقضاء العطلات. هذه النسبة ترتفع إلى 53% لدى الشريحة التي تتجاوز ثرواتها 10 ملايين دولار، مما يؤكد أن الاستثمار ليس فقط ربحيًا بل يتعلق أيضًا بنمط حياة فاخر وممتع.
ومن جانب آخر، تستقطب المشاريع العملاقة في مصر اهتمامًا هائلاً، خاصة من المستثمرين الخليجيين. نسبة 99% من الأثرياء المشاركين في الاستطلاع أعربوا عن نيتهم الاستثمار في واحد من هذه التطورات الضخمة. أصبحت العاصمة الإدارية الجديدة المغناطيس الأكبر، حيث حددها 34% من الإماراتيين كوجهة استثمارية رئيسية، تليها الساحل الشمالي ووسط القاهرة في المركزين الثاني والثالث على الترتيب. “الناس خلاص شافت إن البلد ماشية في طريق التنمية، ومشاريع زي العاصمة الجديدة مش بس حجر وطوب، دي فرصة استثمار ما تتعوضش”، هكذا يرى المستثمرون الأمر.
في الختام، يبدو أن مصر لم تعد مجرد وجهة سياحية أو تاريخية، بل باتت قوة اقتصادية صاعدة تستقطب أنظار كبار المستثمرين. هذا التدفق الهائل لرؤوس الأموال، وبتنوعه وتركيزه على القطاعات الواعدة، يضع الاقتصاد المصري على خريطة الاستثمار العالمي بقوة أكبر. فهل نحن على أعتاب طفرة عقارية غير مسبوقة؟ وهل ستستمر جاذبية مصر في جذب أصحاب الثروات لتحويل هذه الأرقام من مجرد توقعات إلى واقع ملموس يغير وجه الاقتصاد الوطني؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤشرات الأولية تحمل الكثير من الأمل والتفاؤل.