في عالمٍ تتغير فيه خريطة الطاقة باستمرار، وتتأرجح فيه الموازين الجيوسياسية مع كل برميل نفط، تبرز الهند كلاعب رئيسي جديد لا يمكن تجاهله. من منا كان يتوقع أن تتحول هذه الأمة الآسيوية العملاقة، التي طالما ارتبط اسمها بالاستهلاك المتزايد للطاقة، إلى مصدرٍ قياسي للوقود المكرر؟ هذا ما يحدث بالضبط.

فقد شهدت مصافي النفط الهندية طفرة غير مسبوقة في صادراتها من البنزين والديزل، لتلامس مستويات قياسية لم تشهدها منذ سنوات عديدة. الحديث هنا عن أرقام ضخمة، تتجاوز التوقعات، وتضع الهند في قلب معادلة الطاقة العالمية المعقدة. هذه القفزة، التي يحللها خبراء السوق وتجار الطاقة، لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج مزيج من التوسع في قدرات معالجة النفط الخام وزيادة استخدام الإيثانول محليًا، مما أفرغ كميات هائلة من الوقود للسوق العالمية التي تتوق إليه.

طيب، إيه اللي ورا الموضوع ده كله؟ بصراحة، القصة بدأت مع العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا. الهند، اللي بتستورد حوالي تلت احتياجاتها من النفط الخام من موسكو، وجدت نفسها أمام فرصة ذهبية. فمع توفر النفط الروسي بأسعار مخفضة جدًا، بدأت مصافي التكرير الهندية تستغل الوضع ده بأقصى شكل، تزود عمليات التكرير، وتوجه أي فائض من المنتجات المكررة للأسواق الخارجية. ناس كتير بدأت تقول إن الهند “بتتربح” من الوضع ده، زي ما إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صرحت علنًا، متهمة إياها باستيراد النفط الروسي الرخيص وإعادة بيع الوقود المكرر بسعر أعلى. لكن نيودلهي كان ردها واضحًا: مشترياتنا دي ساهمت في استقرار الأسواق العالمية. كلام مهم وله وزنه، مش كده؟

لننظر إلى الأرقام التي تتحدث عن نفسها. تتوقع شركة الاستشارات “وود ماكنزي” أن يرتفع تكرير النفط الخام في الهند هذا العام بنحو 130 ألفًا إلى 160 ألف برميل يوميًا، ليصل إجمالي الإنتاج إلى ما يقرب من 5.51 مليون برميل يوميًا. ومع هذا الارتفاع، من المتوقع أن تصل صادرات البنزين وحدها إلى مستوى قياسي يلامس 400 ألف برميل يوميًا. شركة “كيبلر” لبيانات الطاقة، من جانبها، تقدر صادرات البنزين الهندية لعام 2025 بـ387 ألف برميل يوميًا، معظمها متجه إلى الأسواق الآسيوية. طب ليه كل الزيادة دي؟ مصدر هندي في قطاع التكرير، فضل عدم الكشف عن اسمه، أشار إلى ضعف الطلب المحلي خلال موسم الرياح الموسمية، بالإضافة إلى قلة انقطاعات الصيانة المجدولة للمصافي، ودي كلها عوامل بتسمح بتوجيه كميات أكبر للتصدير.

هناك عامل آخر لا يقل أهمية، وهو تعزيز مزيج الإيثانول. المحللة بريتي ميهتا من “وود ماك” تؤكد أن نمو صادرات البنزين يتغذى بشكل مباشر على ارتفاع حصة مزيج الإيثانول في الاستهلاك المحلي. فالهند، ثاني أكبر مستورد ومستهلك للنفط الخام عالميًا، رفعت نسبة مزيج الإيثانول في البنزين إلى 20% هذا العام، قفزة كبيرة عن 12% فقط في عام 2023. ده بيوفر كميات أكبر من البنزين النقي للتصدير. ومين بيستفيد من الوضع ده؟ شركات التكرير الكبرى زي “ريلاينس إندستريز” و”مانغالور للتكرير والبتروكيماويات المحدودة” اللي بتعزز صادراتها للاستفادة من هوامش الربح القوية للبنزين في آسيا، واللي زادت 51% من بداية العام، ووصلت لحوالي 11-12 دولار للبرميل. أرقام مغرية طبعًا.

وإذا كان البنزين له نصيب الأسد في آسيا، فإن الديزل له حكاية أخرى مع أوروبا. من المتوقع أن تبلغ صادرات الهند من زيت الغاز (الديزل) أعلى مستوياتها في أربع سنوات هذا العام، ومعظم هذه الكميات في طريقها إلى القارة العجوز لتلبية احتياجات التدفئة الشتوية. هل فكرت يومًا كيف ستدفع أزمة الطاقة الأوروبية دولة في آسيا لتعزيز صادراتها إلى هذا الحد؟ هذا السيناريو يحدث الآن، خصوصًا مع توقعات بتقلص المعروض العالمي من الديزل خلال الربع الأخير من العام، نتيجة لأعمال الصيانة المكثفة للمصافي في أوروبا والشرق الأوسط. “وود ماكنزي” تتوقع وصول صادرات الهند من زيت الغاز لعام 2025 إلى ما بين 610 و630 ألف برميل يوميًا، بينما “كيبلر” تقدرها بـ560 ألف برميل يوميًا.

ولأن شركات الطاقة لا تترك فرصة إلا وتقتنصها، قامت “ريلاينس إندستريز” بخطوة غير مألوفة في أواخر أغسطس (آب)، بشحن حوالي مليوني برميل من الديزل إلى أوروبا على متن ناقلة نفط خام عملاقة (VLCC) تحمل اسم “أتوكوس”. ودي حاجة مش متعودين عليها، يعني شحنات الديزل عادةً بتتنقل على متن ناقلات منتجات أصغر حجمًا. لكن استخدام ناقلة عملاقة زي دي بيعكس رغبة الشركة في استيعاب كميات أكبر والاستفادة من الطلب الأوروبي المرتفع. طبعًا، كل ده بيحصل في ظل العقوبات الأوروبية على المنتجات البترولية المصنعة من الخام الروسي، والتي دخلت حيز التنفيذ بعد فترة انتقالية، مع إعفاءات لبعض الدول زي النرويج وبريطانيا وأمريكا.

ولكن المشهد لا يكتمل دون نظرة على العلاقة المتشابكة بين الهند والولايات المتحدة. في خضم كل هذه التطورات، عبر وزير التجارة الهندي بيوش جويال، خلال زيارته الأخيرة لنيويورك، عن رغبة بلاده في زيادة شراء النفط والغاز من الولايات المتحدة. تصريح مهم، مش كده؟ أكد جويال أن الهند تتوقع زيادة معدل تجارتها في منتجات الطاقة مع أمريكا خلال السنوات القادمة، مشددًا على أن أهداف الهند لأمن الطاقة ستعتمد بشكل كبير على الشراكة مع واشنطن، باعتبارهما “أصدقاء حميمين وشركاء طبيعيين”. لكن هذا التودد لم يأتِ بلا ثمن. فجويال كان يزور الولايات المتحدة للقاء نظرائه بعد أن فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسومًا جمركية بنسبة 50% على الصادرات الهندية الشهر الماضي. ومن الواضح أن جزءًا من هذه الرسوم يهدف إلى “معاقبة” نيودلهي على استمرارها في شراء النفط الروسي.

في النهاية، ما الذي تخبرنا به هذه القصة عن الهند وعن مستقبل الطاقة العالمي؟ الهند، بموقعها الجغرافي الاستراتيجي واقتصادها الصاعد، أثبتت قدرتها على التحول بذكاء ومرونة، مستغلة الظروف الجيوسياسية لتأمين مصالحها وتعزيز مكانتها كقوة تصديرية في مجال الوقود المكرر. إنها تلعب دورًا مزدوجًا، تحاول تحقيق أمنها الطاقوي، وتستفيد من الفرص المتاحة، بينما تسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى. هل ستستمر هذه الطفرة؟ وكيف ستؤثر هذه الديناميكيات المتغيرة على أسعار الطاقة العالمية في السنوات القادمة؟ السؤال يبقى مطروحًا، ولكن الأكيد أن الهند قد خطت خطوات عملاقة نحو إعادة تعريف دورها في أسواق الطاقة العالمية، وهو ما سيجعلها محط أنظار العالم لفترة طويلة قادمة.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.