في عالم تتشابك فيه المصالح وتتلاطم أمواج السياسات الاقتصادية، أطلقت بكين مؤخرًا إعلانًا هز الأركان، كاشفة عن تحول قد يعيد رسم خرائط التجارة الدولية ويُنهي عقودًا من الجدل المحتدم. فجأة، وبشكل غير متوقع للبعض، قررت الصين، العملاق الاقتصادي الذي لا يختلف اثنان على نفوذه المتزايد، التخلي عن المطالبة بالامتيازات التي لطالما حظيت بها بوصفها “دولة نامية” داخل منظمة التجارة العالمية. خبر زي ده، يا ترى الصين إيه حكايتها؟
جاء هذا الإعلان المدوّي مساء الثلاثاء، على لسان رئيس الوزراء الصيني، لي تشيانغ، خلال اجتماع رفيع المستوى عُقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك الصاخبة. تصريح لي تشيانغ، الذي نقلته وكالة الأنباء الصينية الرسمية (شينخوا)، لم يكن مجرد خبر عابر، بل كان بمثابة إيذان بإنهاء نقطة خلاف رئيسية لطالما عكّرت صفو العلاقات التجارية بين بكين وواشنطن، وشكلت عائقًا كبيرًا أمام أي اتفاق حول إصلاح المنظمة الدولية.
لم يمر وقت طويل حتى احتفت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، نغوزي أوكونجو إيويالا، بهذه الخطوة واصفة إياها بأنها “تتويج لسنوات عديدة من العمل الشاق”، مشيدةً بـ “قيادة الصين في هذه القضية” عبر بيان نشرته على حسابها الرسمي. وهذا يوضح حجم الأهمية التي تعلقها المنظمة على هذا القرار، والذي قد يمهد الطريق لمرونة أكبر في مفاوضات الإصلاح المترقبة.
ولكن لماذا كل هذا الاهتمام بـ “وضع الدولة النامية”؟ هنا تكمن لب المشكلة. فالدول المصنفة “نامية” في منظمة التجارة العالمية تستفيد من “معاملة خاصة وتفضيلية” (Special and Differential Treatment)، وهي باختصار حزمة مزايا تسمح لها بفرض رسوم جمركية أعلى على الواردات، وتقديم إعانات ودعم لقطاعاتها المحلية – وهي امتيازات لا تتاح للدول المتقدمة. يعني من الآخر كده، كانت ميزة بتدي للصين فرصة تتحرك براحتها شوية في سياستها التجارية، وتقدر تحمي صناعتها المحلية أكتر.
لطالما جادلت الولايات المتحدة بأن اقتصادات ضخمة مثل الصين، والتي يبلغ حجمها قرابة 19 تريليون دولار، لا ينبغي أن تتمتع بهذه الامتيازات. واشنطن ترى أن هذا الوضع يمنحها ميزة غير عادلة ويشوه قواعد اللعبة التجارية العالمية، وقد أكدت مرارًا أن أي إصلاح حقيقي وفعال لمنظمة التجارة العالمية لا يمكن أن يتم ما لم تتخلَّ الصين وغيرها من الاقتصادات الكبرى عن هذه المعاملة الخاصة. بصراحة، الموضوع ده كان زي الشوكة في الزور للأمريكان، وكانوا شايفين إن الصين مش من حقها تستفيد من حاجة زي دي وهي بقوتها الاقتصادية دي.
القرار الصيني، ورغم أهميته، أثار بعض الارتباك في البداية. هل يعني هذا أن الصين تعلن أنها لم تعد دولة نامية؟ هنا جاء التوضيح الضروري من كبير المفاوضين التجاريين الصينيين، لي تشنغ قانغ، الذي صرح في إفادة صحافية بأن الصين “لا تزال تعتبر نفسها دولة نامية” في منظمة التجارة العالمية، لكنها “ستتخلى عن المطالبة بالمزايا” التي يجنيها هذا التصنيف. وهذا فرق جوهري، فالصين لا تتنصل من هويتها كدولة نامية، بل تختار التنازل عن امتيازات معينة مرتبطة بهذا التصنيف. الناس بقى بدأت تتكلم وتقول: هل الصين بتعلن إنها مش دولة نامية؟ ولا إيه الحكاية بالظبط؟ لكن التوضيح ده حط النقط على الحروف.
يأتي هذا الإعلان في فترة حاسمة تشهد توترات تجارية متصاعدة بين أكبر اقتصادين في العالم، تميزت بفرض واشنطن لتعريفات جمركية شاملة تبعتها إجراءات انتقامية من بكين. هل هذا القرار هو محاولة لتهدئة الأجواء المتوترة وفتح صفحة جديدة في العلاقات التجارية؟ ربما. فوفقًا لوكالة بلومبرغ، يمثل هذا القرار محاولة من بكين لكسب ود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي اعترض بشدة على تصنيف الصين كدولة نامية، معتبرًا ذلك “غير عادل” بالنظر إلى حجم اقتصادها. كما أن الصين، المدفوعة بالتعريفات الجمركية الأمريكية، اضطرت إلى توجيه المزيد من صادراتها نحو الاقتصادات الناشئة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، وهو ما بدأ يواجه مقاومة في أنحاء مختلفة من العالم، مما يجعل التفاوض على اتفاق تجاري أكثر استقرارًا مع الولايات المتحدة أولوية استراتيجية.
لكن دعونا نعود خطوة للوراء لنتأمل هذا التصنيف في سياقه الأوسع. يتم تصنيف الدول كـ “نامية” عادةً بناءً على تقديرها الذاتي، وهذا يمنحها مرونة أكبر، بما في ذلك وقت إضافي لتنفيذ الاتفاقيات التجارية. لطالما وصفت الصين نفسها بأنها “أكبر دولة نامية في العالم”، مستغلة هذا التصنيف لتلعب دورًا قياديًا في تمثيل مصالح الدول النامية الأخرى. ولكن هل يعقل أن تُعامل قوة اقتصادية بهذا الحجم بنفس المعايير التي تُعامل بها دول أصغر بكثير؟ على الرغم من التحول الهائل الذي شهدته الصين على مدار أربعة عقود، والذي جعلها أكبر اقتصاد عالمي في مجال التجارة والصناعة، لا تزال الأمم المتحدة تصنفها كدولة نامية. وإن نظرنا إلى نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وفقًا لصندوق النقد الدولي، نجد الصين في المرتبة 70 عالميًا، متقدمة قليلاً على الجبل الأسود وتركمانستان، لكنها تأتي خلف صربيا. هذه الأرقام تضع تساؤلات حول مدى ملاءمة التصنيف التقليدي للواقع الاقتصادي المعاصر.
في نهاية المطاف، لا يمكن فصل هذا القرار عن السياق الأوسع لإصلاح منظمة التجارة العالمية، الذي طالما عرقلته قضايا مثل تصنيف الصين. ففي وقت سابق من هذا العام، أقر وزراء التجارة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بمن فيهم وزراء الولايات المتحدة والصين، بأهمية المنظمة في تعزيز قضايا التجارة العالمية، وضرورة الالتزام بقواعدها، داعين في الوقت نفسه إلى “إصلاح شامل وفعال يهدف إلى تحسين جميع وظائف المنظمة”.
قرار الصين بالعدول عن المطالبة بهذه الامتيازات ليس مجرد تنازل، بل قد يكون خطوة استراتيجية محسوبة بعناية. إنه إقرار ضمني بأن قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية تتغير، وأن مكانة الصين كقوة اقتصادية عظمى تتطلب منها مسؤوليات أكبر وتنازلات معينة للحفاظ على نظام تجاري مستقر وعادل. هل ستلهم هذه الخطوة دولًا أخرى ذات اقتصادات كبرى مصنفة كنامية لتتخذ قرارًا مماثلًا؟ وهل ستفتح الباب بالفعل أمام إصلاح حقيقي لمنظمة التجارة العالمية قبل اجتماعها الوزاري المقرر في الكاميرون عام 2026؟ هذه هي الأسئلة التي سيكشف عنها المستقبل، وتأثيرها لن يقتصر على أروقة التجارة الدولية فحسب، بل سيمتد ليلامس حياة الملايين حول العالم.