بين وهج الأضواء وعروض المشاريع البراقة، افتُتح معرض سيتي سكيب العقاري اليوم، وهو حدث لطالما كان قبلة للمستثمرين والباحثين عن فرصة في السوق العقاري المصري. يشارك في المعرض نحو 80 مطورًا، يستعرضون ما يقرب من 1000 مشروع، من الفيلات الفاخرة في المدن الجديدة إلى الوحدات السكنية العصرية في المناطق النابضة بالحياة. لكن خلف هذا المشهد المألوف من الحراك والتسويق المكثف، يختبئ سوق عقاري يهمس بهدوء، يشهد تباطؤًا في حركة البيع والشراء، وهو ما يثير تساؤلات حقيقية حول ما يخبئه هذا القطاع الحيوي، ولماذا لا تزال الأسعار متماسكة رغم كل هذه المعطيات المتغيرة؟
المتتبع لحركة السوق العقاري المصري يلحظ ثباتًا غريبًا في الأسعار عند مستوياتها المرتفعة التي سجلتها خلال فترة الصعود الكبير في تكلفة البناء، وتحديدًا عندما كانت مصر تواجه أزمة شح الدولار قبل إبرام صفقة رأس الحكمة الضخمة. وقتها، كانت الشركات تضطر إلى تسعير وحداتها بناءً على سعر الصرف في السوق الموازية الذي وصل إلى مستويات جنونية، فاكرين لما الدولار كان طالع نار ووصل لـ70 جنيه في يناير 2024؟ الغريب أن هذه الأسعار، التي تحددت في ظروف استثنائية، ظلت هي الأساس حتى مع تحسن الأوضاع. بل إن بعض المناطق، مثل الساحل الشمالي والقاهرة الجديدة، شهدت زيادات طفيفة، وهو أمر قد يبدو محيرًا للكثيرين.
لكن الصورة تغيرت بشكل جذري بعد صفقة رأس الحكمة التي أسهمت في تدفق الدولار وتراجعه بشكل ملحوظ. فقد انخفض سعر الدولار الرسمي في البنوك بنسبة تقدر بنحو 31%، ليستقر عند حوالي 48.3 جنيهًا، مقارنة بأسعار السوق الموازية التي كانت الشركات تعتمد عليها. هذا الانخفاض كان له تأثير مباشر على تكلفة مدخلات البناء الرئيسية مثل الحديد والأسمنت، اللذين شهدا تراجعًا واضحًا في الأشهر الماضية. ومع ذلك، لا تزال أسعار الأراضي التي تُعد مكونًا رئيسيًا في التكلفة الإجمالية للمشروع، مرتفعة، مما يضع الشركات العقارية في موقف معقد. فهل يمكنها أن تستمر في التمسك بأسعار البيع القديمة في ظل تراجع جزء كبير من تكاليف الإنشاء؟
لم تكن تقلبات العملة وحدها هي اللاعب الوحيد في هذه الدراما السوقية المعقدة. فالبنك المركزي المصري، في سياسته النقدية الأخيرة، اتجه نحو التيسير وخفض أسعار الفائدة بنحو 5.25% منذ بداية العام الجاري. وده، بصراحة كده، بيخلي أوعية ادخارية تانية زي الذهب وشهادات البنوك المغرية، منافس قوي للعقار. لما البنك المركزي يقلل الفايدة، الناس بتدور على بدائل توفر لها عائد أفضل أو تحفظ قيمة مدخراتها. طب والعقار؟ هل هو لسه الملاذ الآمن الوحيد زي ما كنا بنقول زمان؟ هذا التساؤل يضع المطورين في تحدٍ حقيقي لاستعادة بريق استثماراتهم.
أمام هذه التحديات المتعددة، كان على المطورين أن يبتكروا حلولًا. فها هي شركات التطوير العقاري تسعى جاهدة لتنشيط حركة البيع والشراء عبر عروض تسويقية مغرية وتيسيرات كبيرة للعملاء. في المعرض ده بالذات، هتلاقي خطط سداد مرنة جداً، وتخفيضات أحيانًا، يمكن دي فرصة مش هتتكرر كتير. إطلاق مشاريع جديدة، أو مراحل إضافية في مشاريع قائمة، أصبح هو السبيل لضخ دماء جديدة في شرايين السوق. بمعنى آخر، بيحاولوا يبيعوا “قيمة” مضافة، مش بس سعر، عشان يجذبوا المشترين اللي أصبحوا أكثر حذرًا وانتقائية.
الأخبار الجيدة لم تتوقف عند استقرار العملة وتراجع تكاليف بعض مدخلات البناء. فقد واصل معدل التضخم في مصر اتجاهه الهبوطي للشهر الثالث على التوالي في أغسطس الماضي، ليسجل أدنى مستوى فيما يزيد عن ثلاث سنوات. تخيل إن التضخم وصل لأدنى مستوى ليه في أكتر من تلات سنين؟ انخفض المؤشر القياسي لأسعار المستهلكين بنسبة 0.4% مقارنة بيوليو، كما تباطأ معدل التضخم الأساسي على أساس سنوي إلى 10.7% في أغسطس من 11.6% في يوليو، بحسب بيانات البنك المركزي. هذا الانحسار في ارتفاع الأسعار يعزز التوقعات الحكومية بتراجع أكبر في التضخم، وهو ما قد يترجم على المدى المتوسط إلى زيادة في القوة الشرائية للمستهلكين، وبالتالي، ربما انتعاش في الطلب على العقارات.
إذن، في خضم هذا المشهد المعقد، ماذا يخبئ لنا سوق العقارات المصري؟ هل يمثل سيتي سكيب نقطة تحول حقيقية، أم أنه مجرد محاولة أخيرة لكسر حاجز الركود؟ يبدو أن المطورين يعتمدون على استراتيجية الصمود في مواجهة تحديات الأسعار المرتفعة للأراضي، بينما يحاولون إغراء المشترين بالتيسيرات والعروض. للمشترين المحتملين، قد يكون هذا هو الوقت المناسب للمقارنة والتفاوض والاستفادة من عروض ما بعد صدمة الدولار. أما للمستثمرين، فإن مراقبة استجابة السوق لهذه العروض، وتأثير التضخم المنخفض على ثقة المستهلك، سيكون هو مفتاح فهم الاتجاهات المستقبلية. السوق في مرحلة مفصلية، يكتب فيها فصلًا جديدًا من فصوله، فهل تكون النهاية انتعاشًا طال انتظاره أم استمرارًا لحالة الهدوء المترقب؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف الإجابة.