في عالمٍ تتراقص فيه الثروات الرقمية على أوتار الابتكار، وتتخلله في الوقت نفسه ظلالٌ كثيفة من الاحتيال والتلاعب، يبرز التساؤل الأزلي: هل يمكن للتقنية ذاتها أن تكون حارساً أميناً في هذا الفضاء المتقلب؟ الإجابة، وربما بصيص أملٍ جديد، يأتينا هذه المرة من قلب روسيا، حيث أعلن باحثون عن إنجازٍ قد يغير قواعد اللعبة تماماً في مكافحة الاحتيال بالعملات المشفرة.
تخيل عالماً رقمياً، مليئاً بالوعود والفرص، لكنه مليء أيضاً بالمحتالين الذين يتسللون كالأشباح، يرتدون أقنعةً متعددة لسرقة جهود الآخرين. هذا هو التحدي الذي يواجهه سوق العملات الرقمية منذ نشأته، لكن الوضع قد يشهد تحولاً جذرياً بفضل خوارزمية جديدة تعتمد على التعلم الآلي، طوّرها علماء في المعهد الفيزيائي التقني بموسكو (MIPT). ما يميز هذه الخوارزمية، بحسب ما نقلته وكالة تاس للعلوم، هو قدرتها الفائقة على كشف شبكات الحسابات المزيفة بدقة تصل إلى 90%، وهي نسبة مذهلة تعادل ضعف كفاءة الحلول التقليدية الحالية، التي لم تتجاوز فعاليتها في أحسن الأحوال 60%. يعني بالبلدي كده، دي أداة قوية جداً تقدر تشوف اللي العين المجردة ما تشوفوش!
المحفظة الواحدة… وجيش الأشباح
لكن، ما طبيعة هذه الحسابات المزيفة التي تتصدى لها الخوارزمية؟ يوضح الباحث أليكسي سابلين من MIPT أن الخوارزمية تستهدف ما يُعرف بـ”المحافظ السيبيلية” (Sybil Wallets). ببساطة، تخيل شخصاً واحداً ينشئ عشرات أو حتى مئات المحافظ الرقمية المختلفة، بهدف واحد: الاحتيال. هذا التكتيك الشائع يُستخدم غالباً في حملات “الإيردروب”، وهي حملات يتم فيها توزيع العملات الرقمية مجاناً في المراحل الأولى لإطلاق المشاريع لجذب المستخدمين. المحتال هنا يستغل تعدد هوياته الوهمية للحصول على مكافآت متعددة وغير مستحقة، وكأنه جيشٌ من الأشباح يتسلل لجني الغنائم.
تأثير هذه المحافظ الوهمية لا يقتصر على مجرد سرقة عملات قليلة، بل يمتد ليزعزع استقرار النظام بأكمله. فهي تشوه مؤشرات الأداء الحقيقية داخل المشاريع الرقمية، وتعطي انطباعاً زائفاً عن حجم المستخدمين أو التفاعل. الأسوأ من ذلك، أنها تتسبب في انخفاض حاد في قيمة العملات بمرور الوقت، وتضعف ثقة المستخدمين في الفرق المطورة وفي الاقتصاد المرتبط بالمشروع ككل. يعني لما ناس كتير تكتشف إن المشروع اللي حطت فيه فلوسها كان كله أوهام وأرقام مزيفة، طبيعي الثقة تتهز جامد.
كيف تعمل “العين الساهرة” الجديدة؟
السر وراء هذه الدقة غير المسبوقة يكمن في منهجية الخوارزمية المتكاملة. فهي لا تكتفي بتحليل مؤشر واحد أو اثنين، بل تمضي أبعد من ذلك بكثير. تقوم هذه الأداة الذكية بتحليل عشرات المؤشرات المختلفة، بدءاً من أنماط السلوك الرقمي للمستخدمين، مروراً بالروابط الشبكية المعقدة بين المحافظ الإلكترونية المختلفة، وصولاً إلى تفاصيل دقيقة لا يمكن للعين البشرية رصدها بسهولة. هذا النهج الشامل يمنحها القدرة على اكتشاف حتى المجموعات الاحتيالية الأكثر تعقيداً وتنظيماً، والتي كانت تفلت عادة من قبضة الأدوات التقليدية الصارمة التي تعتمد على قواعد محددة سلفاً. الأمر أشبه بمحقق ذكي لا يبحث عن بصمة واحدة، بل يجمع كل الأدلة ويحلل الشبكة الكاملة للجريمة.
اختبارات حاسمة ونتائج مبهرة
لكن هل الأمر مجرد كلام نظري أم هناك دليل ملموس على فاعليتها؟ الإجابة جاءت مدوية خلال مسابقة مفتوحة نظمها مشروع “Layer Zero” العالمي. هذه الخوارزمية الروسية لم تخيب الآمال، بل نجحت في كشف عمليات احتيال واسعة النطاق بشكل لم يسبق له مثيل. وكنتيجة مباشرة لتطبيقها، تم إلغاء مدفوعات غير عادلة تقدر بقيمة 10.2 مليون دولار أمريكي! بصراحة، 10.2 مليون دولار مش مبلغ قليل أبداً، ودي بتوضح قد إيه المشكلة كانت كبيرة وخطيرة، وكمان بتأكد إن الحل ده مش مجرد وعود.
هذا الإنجاز ليس مجرد انتصار تقني، بل هو نقطة تحول قد تعيد بناء الثقة في بيئة العملات الرقمية. يتوقع الباحثون أن تصبح هذه الخوارزمية أساساً لتطوير أداة عالمية لمكافحة الاحتيال في مختلف أنظمة البلوكشين. وبفضل اعتمادها على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، فإنها قادرة على رصد الروابط الخفية والأنماط السلوكية غير الواضحة التي قد لا يلاحظها التحليل اليدوي أو القواعد الصارمة التقليدية التي يسهل على المحتالين التحايل عليها.
نحو مستقبل رقمي أكثر أماناً؟
في نهاية المطاف، كلما تعقدت آليات الاحتيال، كلما وجب أن تتطور أدوات الحماية لمواجهتها. هذا التطور الروسي لا يمثل فقط قفزة نوعية في مجال الأمن السيبراني للعملات الرقمية، بل هو أيضاً تذكير بأن مستقبل التمويل الرقمي يعتمد بشكل كبير على قدرتنا على بناء أنظمة شفافة وعادلة ومحصنة ضد التلاعب. هل يمكننا أن نتخيل يوماً لا يجرؤ فيه محتال على التسلل إلى هذا العالم الواعد؟ ربما لا يكون الخلاص كاملاً، ولكن هذه الخوارزمية تُضيء الطريق نحو بيئة رقمية أكثر أماناً، حيث يمكن للمستخدمين والمستثمرين التحرك بثقة أكبر. ففي نهاية المطاف، تبقى الثقة هي العملة الأغلى في أي نظام اقتصادي، رقمي كان أو تقليدي.