في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتغير الموازين الاقتصادية بين عشية وضحاها، يظل الذهب، هذا المعدن النفيس الذي فُتن به البشر على مر العصور، هو الملاذ الآمن والدرع الواقي للكثيرين. لكن هل تخيلت يوماً أن يتجاوز بريقه كل الحدود ويصل لقمة لم يسبق لها مثيل، ليصبح حديث المجالس والنقاشات الاقتصادية على حد سواء؟ هذا بالذات ما حدث في مصر مؤخرًا، تحديدًا صباح يوم الأربعاء الموافق 24 سبتمبر 2025.
لم يكن صباحًا عاديًا كغيره من أيام الأسبوع، ففي خضم التعاملات الصباحية، شهد سوق الذهب المحلي قفزة مدوية في الأسعار، أذهلت المتداولين والمستهلكين على حد سواء. فقد استقر سعر جرام الذهب عيار 24، وهو العيار الأكثر نقاءً، عند مستوى تاريخي غير مسبوق بلغ 5827 جنيهًا مصريًا، وذلك بدون احتساب قيمة المصنعية. تخيل الرقم! هذا ليس مجرد ارتفاع عابر، بل هو ترسيخ لمكانة الذهب كملك للملاذات الآمنة في أوقات الاضطراب الاقتصادي. يعني بالمصري كده، اللي معاه دهب النهاردة كأنه ماسك كنز فعلاً.
لم يقتصر الأمر على عيار 24 بالطبع، فجميع الأعيرة الذهبية تبعت مساره الصعودي. وصل سعر جرام الذهب عيار 21، وهو الأكثر تداولاً في السوق المصري، إلى 5100 جنيه، في حين سجل عيار 18، المفضل لدى الكثيرين لمشغولات الزينة الأنيقة، 4371 جنيهًا. وحتى الجنيه الذهب، ذلك الحصن الصغير للاستثمار، ارتفع ليلامس حاجز الـ 40,800 جنيه. هذه الأرقام، وإن بدت مجرد أرقام، إلا أنها تحمل في طياتها قصصًا كثيرة عن أحلام مؤجلة، وقرارات استثمارية جريئة، وتخطيط للمستقبل في ظل ظروف اقتصادية عالمية غير مستقرة.
ولكن، ما السر وراء هذا الصعود الصاروخي الذي لم تشهده أسواقنا من قبل؟ الإجابة ببساطة تكمن في ما وراء البحار، في الأسواق العالمية التي تعتبر المحرك الأساسي لأسعار المعدن الأصفر في كل بقاع الأرض. صباح ذلك اليوم، بلغ سعر أونصة الذهب عالميًا حوالي 3750 دولارًا أمريكيًا، بعد أن كانت قد حققت أعلى مستوى تاريخي لها خلال الأسبوع نفسه بوصولها إلى 3775 دولارًا للأونصة. هذا الارتفاع ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تفاعلات اقتصادية معقدة بدأت منذ فترة، وتتضح معالمها أكثر فأكثر.
المتابعون للأسواق العالمية يدركون تمامًا أن الذهب ليس مجرد معدن ثمين يُصاغ على هيئة حُلي، بل هو مؤشر حيوي لحالة الاقتصاد العالمي. فما الذي يدفع المستثمرين حول العالم للتهافت عليه بهذا الشكل؟ ببساطة، الأمر يتعلق بـ “المخاطر” و”التوقعات”. في الفترة الأخيرة، تزايدت التوقعات حول احتمالية خفض الفائدة الأمريكية من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي. وعندما تنخفض أسعار الفائدة، تقل جاذبية السندات والودائع البنكية، مما يدفع المستثمرين للبحث عن بدائل تحقق لهم عائدًا أو على الأقل تحافظ على قيمة أموالهم، وهنا يظهر الذهب كالملاذ الأول.
وليس هذا فحسب، بل إن شبح التضخم يلوح في الأفق بقوة. كلما زادت مخاطر التضخم – أي تآكل القوة الشرائية للنقود – كلما ارتفعت شهية المستثمرين للمعدن الأصفر الذي يُعرف بقدرته على الحفاظ على قيمته عبر الزمن. تخيل أنك تملك مبلغًا كبيرًا من المال، وتخشى أن يفقد قيمته غدًا؛ ألن تبحث عن وسيلة تحميه من هذا التآكل؟ الذهب هو الإجابة التقليدية لهذا السؤال. وقد استمر المعدن النفيس في تحقيق مكاسب للجلسة الثالثة على التوالي، وهو ما يؤكد على قوة هذا الاتجاه الصعودي.
الأنظار كانت ولا تزال موجهة نحو كواليس السياسة النقدية الأمريكية. فالمستثمرون في الأسواق العالمية ينتظرون خطاب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، بفارغ الصبر. فكل كلمة يقولها باول قد تحمل في طياتها مؤشرات حول الاتجاه المستقبلي للفائدة الأمريكية، وبالتالي تؤثر مباشرة على سعر الذهب. بالإضافة إلى ذلك، يترقب الجميع صدور بيانات مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) يوم الجمعة. هذا المؤشر، الذي يفضله الفيدرالي لمتابعة مستويات التضخم، يمكن أن يعطي إشارات واضحة حول قوة الاقتصاد الأمريكي ومسار التضخم، مما قد يؤثر بشكل كبير على اتجاه سعر الذهب خلال الفترات المقبلة. يعني الموضوع مش بسيط وموش مجرد لعبة أرقام، ده كله بيعكس تحركات اقتصادية عالمية عميقة.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لنا كأفراد ومستهلكين؟ هل نحن أمام موجة صعود عابرة ستتبعها فترة هدوء، أم أننا نشهد بداية لعهد جديد تتغير فيه قواعد اللعبة المالية؟ بالنسبة للبعض، هذه الأسعار المرتفعة قد تكون فرصة لتحقيق أرباح لمن استثمروا في الذهب مبكرًا. أما بالنسبة للآخرين، خاصة الشباب المقبلين على الزواج أو من يخططون لمشاريع تتطلب شراء الذهب، فإن هذه الأرقام قد تبدو عائقًا كبيرًا. السوق في حالة ترقب، والعين على كل مؤشر اقتصادي عالمي، لأن المستقبل القريب لأسعار الذهب، محليًا وعالميًا، سيتشكل بناءً على هذه التطورات. فهل سيستمر الذهب في بريقه الصاعد، أم أن الرياح ستأتي بما لا تشتهي سفن الطامحين للاستقرار المالي؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف الإجابة.