تخيّل أن العالم المالي بكامله يحبس أنفاسه، متطلعاً نحو الأبواب العتيقة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. لشهور طويلة، تحولت همسات التوقعات إلى جوقة مدوية، مرسّمةً مساراً بدا حتمياً. وكما جرت العادة في عالم التوقعات الذي نادراً ما يخلو من المفاجآت، أسدل “الفيدرالي” يوم الأربعاء الماضي الستار على أول خفض لأسعار الفائدة في عام 2025. خبرٌ، للوهلة الأولى، يحمل معه عبق الارتياح لكثيرين. لكن هل هذه مجرد بداية لسيمفونية من التيسير النقدي، أم أنها مجرد نوتة وحيدة في مقطوعة اقتصادية أكثر تعقيداً؟ هنا تكمن الحكاية الحقيقية، يا صديقي.
كانت الأسواق، وبخاصة أسواق العقود الآجلة، ترسم في خيالها مساراً واضحاً لا لبس فيه: تخفيضات متتالية لأسعار الفائدة، ربما اثنان آخران قبل أن يلفظ العام أنفاسه الأخيرة، إرضاءً لشهية المستثمرين للتيسير النقدي. لكن الواقع، كما تتكشف المعطيات الجديدة، يبدو أبعد ما يكون عن هذه الصورة الوردية. فما يبدو على السطح تبسيطاً مُفرطاً لمسار ثنائي، قد يكون في جوهره إشارة إلى أن الخفض الوحيد الذي شهدناه الأسبوع الماضي هو كل ما سيحصل عليه الاقتصاد هذا العام. يعني بصراحة، المسألة مش بالبساطة اللي الناس فاكراها أو اللي السوق بيتوقعها.
لفهم الصورة الأعمق لهذا المشهد الاقتصادي المعقد، لا بد أن نغوص في دهاليز “مخطط النقاط” الشهير التابع للفيدرالي، تلك الأداة التي تكشف عن التوقعات الفردية والسرية لأعضاء مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي ورؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية بشأن اتجاه أسعار الفائدة. النقطة المتوسطة في هذا المخطط، والتي غالباً ما تشغل عناوين الأخبار وتُروّج كتعبير عن “الإجماع”، تشير إلى تخفيضين إضافيين. لكن لما تبصّ كويس على تفاصيل التوزيع، تكتشف إن الصورة من جوه متقسمة نصين: مجموعة من ستة أعضاء شايفين إن الخفض اللي حصل ده كفاية وزيادة للسنة دي، في مقابل مجموعة أكبر (حتى الآن) من تسعة أعضاء لسه متوقعين خفضين تانيين. ده غير بقى اتنين شايفين إن خفض واحد بس هو المطلوب، بالإضافة إلى رأيين متطرفين: أحدهما ينادي بتيسير “خيالي” بمقدار 125 نقطة أساس، والآخر يرى أن الفيدرالي أصلاً ما كانش المفروض يتحرك من مكانه الأسبوع ده. واضح إن فيه انقسام كبير وخلاف في الرؤى داخل البيت الفيدرالي!
إذن، أي من هذين المسارين المتضادين هو الأقرب إلى الحدوث فعلياً؟ الجواب، يا عزيزي، يكمن في قلب سوق العمل الأميركي. المعسكر المائل للتيسير النقدي، أو ما يُعرف بالـ “حمائم”، يستند في حجته إلى ملاحظة مفادها أن سوق العمل، حسب تعبير محافظ الفيدرالي كريستوفر والر، “يقترب من مرحلة التباطؤ التام”. هؤلاء لا ينكرون أن الرسوم الجمركية ترفع الأسعار على المستهلك، لكنهم يعتبرونها عاملاً مؤقتاً يجب تجاهله عند صياغة السياسات النقدية. ويشيرون إلى بيانات التوظيف الضعيفة التي صدرت مؤخراً كدليل على ضرورة المزيد من التخفيضات.
لكن حججهم تلك تصطدم بجدار من التعقيدات المرتبطة بجانب العرض في سوق العمل. القيود الجديدة على الهجرة، وحالات الترحيل، وحتى المناخ العام من الخوف بين غير المواطنين، كلها عوامل تقلص عدد العمال المتاحين في الاقتصاد. يعني، ممكن تكون الشركات بتوظف عدد أقل مش عشان مفيش شغل أصلاً، لأ، ده عشان ببساطة مفيش عمال كافيين ومناسبين. وهذا ما يدفع مسؤولين مثل أوستان غولسبي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، إلى الدعوة للتركيز على النسب والمؤشرات النوعية لسوق العمل بدلاً من الأرقام الصافية للتوظيف. الموضوع محتاج نظرة أعمق من مجرد الأرقام المجردة، ألا توافقني الرأي؟
دعنا نلقي نظرة سريعة على الأرقام الحالية لسوق العمل، فهي غالباً ما تكون أكثر صدقاً من التكهنات. معدل البطالة لا يزال عند 4.3% فقط، وهو رقم كان ليُعد إنجازاً اقتصادياً باهراً في أي عصر سابق. أما معدل التوظيف، البالغ 3.3%، فهو وإن كان يبدو ضعيفاً نسبياً، فإنه يحافظ على استقراره منذ منتصف عام 2024. وحتى معدل التسريحات والاستقالات، يقترب من 1.1% دون تغيير جوهري يذكر. أما طلبات إعانة البطالة الأولية، فقد بلغت 231 ألفاً في الأسبوع المنتهي في 13 سبتمبر، وهو رقم غير لافت على الإطلاق، خصوصاً بعد أن اتضح أن القفزة المفاجئة التي شهدها الأسبوع الذي سبقه كانت بسبب عمليات احتيال في ولاية تكساس. كل هذه المعطيات تُشير إلى أن التراجع الذي شهده الاقتصاد وسوق العمل في الفصول الأخيرة قد يكون بدأ بالانحسار، مما يُثير احتمال أن يكون صانعو السياسات ذوو التوجه التيسيري في الفيدرالي يُقيّمون الوضع من منظور رجعي، أشبه بالنظر في المرآة الخلفية بدلاً من التطلع إلى الأمام.
وماذا عن بقية الاقتصاد الأميركي؟ المؤشرات تشير إلى انتعاش ملموس يُبشّر بالخير. مبيعات التجزئة في أغسطس ارتفعت للشهر الثالث على التوالي، وبدأ الاستهلاك يتوسع مرة أخرى بعد تعديله وفقاً للتضخم، منهياً بذلك فترة من الركود في النصف الأول من العام. وحتى لو لم ينتهِ الربع الثالث بعد، فإن أداة “جي دي بي ناو” التابعة لبنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا تتوقع نمواً سنوياً للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.3% خلال الربع الحالي. نعم، هذه الأداة لها قيودها الخاصة، لكنها أثبتت مراراً وتكراراً تفوقها على توقعات الاقتصاديين التقليديين في هذا الاقتصاد العصي على التنبؤ ما بعد الجائحة. وسوق الأسهم، وإن لم يكن مقياساً مثالياً للنشاط الاقتصادي بحد ذاته، فهو يحلق في أعلى مستوياته على الإطلاق، معززاً ثروات الأسر ومحفزاً للإنفاق المستقبلي.
أحد التفسيرات المحتملة لهذا الانتعاش الملحوظ هو أن الاقتصاد الأميركي تعرض لاضطراب مؤقت بسبب حالة عدم اليقين التي أثارتها “رسوم يوم التحرير” التي فرضها الرئيس دونالد ترمب، لكنه بدأ يستعيد عافيته وتوازنه تدريجياً. وعلى الرغم من استمرار بعض العقبات هنا وهناك، فإن الادعاءات بأن النمو قد انتهى تماماً تبدو مبالغاً فيها بالنظر إلى البيانات الحالية. وإذا ثبت في نهاية المطاف خطأ معسكر التيسير المفرط في “مخطط النقاط”، فإن معسكر “اللا تغيير” سيجد نفسه في الواجهة، وستكون حججه هي الأكثر إقناعاً. هذا المعسكر، بالمناسبة، يتشابه مع نظيره التيسيري في إدراكه لارتفاع التضخم نسبياً، لكنه لا يعطي الرسوم الجمركية وزناً كبيراً في تحليلاته، ويصف سوق العمل بـ “التوازن الغريب” كما قال جيروم باول في خطابه في جاكسون هول الشهر الماضي. الفرق الجوهري هو أنهم لا يأخذون هذا التوازن الهش كأمر مسلم به، بل يرون ضرورة التروي والحذر.
للأسف، لا يمكننا أن نتجاهل الأثر السياسي في هذه المعادلة المعقدة، فالسياسة تُلقي بظلالها على كل شيء. الرئيس ترمب يواصل هجماته المتكررة على رئيس الفيدرالي باول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويدعو إلى تخفيضات هائلة في أسعار الفائدة تتجاوز بكثير ما هو مطروح للنقاش. بل وصل الأمر إلى استخدام وزارة العدل لمحاولة إقالة ليزا كوك، إحدى محافظي الفيدرالي التي تختلف معه في التوجهات. كوك ربحت الجولة القانونية الأخيرة ضده هذا الأسبوع، لكن ترمب صعد القضية الآن إلى المحكمة العليا. هل يمكن لمسؤولين في الفيدرالي، وهم بشر في النهاية، أن يتجاهلوا كل هذا الضجيج السياسي والضغط الهائل؟ هل ستظل استقلالية البنك المركزي الأميركي حصناً منيعاً أمام التدخلات؟ هذا سؤال يظل معلقاً ومُقلقاً. وقد يكون تأثير السياسة متوازناً بشكل غريب هذا العام: فبعض الأعضاء قد يميلون لا شعورياً نحو التيسير تحسباً لردود فعل الإدارة، بينما قد يتخذ آخرون موقفاً أكثر تشدداً بدافع غريزي من الرفض أو التحدي. زي ما بنقول كده، “الله أعلم بالنوايا الخفية”!
في المحصلة النهائية، ستبقى قرارات السياسة النقدية ثنائية الاتجاه في المدى القريب: إما أن يشهد سوق العمل انهياراً حقيقياً لا يمكن إنكاره، أو أن دورة الخفض التي بدأت قد وصلت إلى محطتها المؤقتة لهذا العام. وفي الوقت الراهن، تشير كل الدلائل والمعطيات إلى أن السيناريو الثاني هو الأرجح— وهو ما قد يكون خبراً ممتازاً للعمال الأميركيين الذين يرون سوقاً مستقرة نسبياً، لكنه قد يكون خبراً غير سار للمستثمرين في السندات الذين كانوا يراهنون على تيسير أكبر، وللرئيس ترمب الذي يرى في التيسير النقدي حلاً لمشاكله الاقتصادية والسياسية. فالقصة، كما نرى، ليست مجرد أرقام تُقرأ من مخطط، بل هي شبكة متشابكة من التوقعات المعقدة، والانقسامات الداخلية، والواقع الاقتصادي المتغير، وحتى السياسة التي لا تفتأ ترمي بظلالها على كل قرار مصيري. فهل نحن على أعتاب فترة استقرار اقتصادي، أم أن الهدوء الذي نراه مجرد سكون يسبق عاصفة؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف الحقيقة.