في عالمٍ لا يتوقف عن الدوران، ولا تهدأ فيه موجات التفاؤل والقلق، تبقى العملات المشفرة هي الأسرع في التقاط أنفاس السوق. هذا الأسبوع، رسمت هذه الأصول الرقمية لوحة فنية معقدة من الصعود والهبوط، بين قممٍ مبشرة ووديانٍ عميقة، كاشفةً عن حقيقة ثابتة: التقلبات هي جوهرها، والترقب هو وقودها.
شهدت أسواق العملات الرقمية انتعاشًا ملحوظًا يوم أمس، في خطوة أعادت بعض الثقة للمستثمرين بعد أيامٍ عصيبة. ارتفعت “بتكوين”، العملة الرقمية الأكبر والأكثر شهرة، لتتجه بثبات نحو حاجز الـ 113 ألف دولار، مسجلةً زيادة قدرها 0.59% لتصل إلى 112,855 دولارًا. لم تكن وحيدة في هذا الصعود؛ فقد تبعتها عملات رقمية أخرى بمسار مشابه، حيث قفزت “إيثريوم” بنسبة 1.10% لتلامس 4194.58 دولارًا، وصعدت “ريبل” بـ 0.97% لتصل إلى 2.8717 دولار، وحتى “دوج كوين” لم تتخلف كثيرًا، بارتفاعها بنحو 0.97% لتصل إلى 24.1 سنتًا.
هذه القفزة ليست مجرد أرقام عابرة، بل تعكس ترقبًا هائلاً لما هو قادم من “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي. يعني، الناس كانت بتترقب بفارغ الصبر كلمة جيروم باول، رئيس البنك المركزي، اللي كان المفروض يلقيها في نفس اليوم. كلام باول مش مجرد خطاب عادي، ده بيعتبر بوصلة تحدد اتجاه سعر الفائدة، واللي بدوره بيأثر بشكل مباشر على مدى شهية المستثمرين للمخاطرة، خاصةً في أصول زي العملات المشفرة اللي بيعتبرها البعض “عالية المخاطر”.
تركيز المستثمرين هذا الأسبوع لم ينصب فقط على كلمات باول، بل امتد ليشمل بيانات مقياس التضخم المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي. ألا يُقال دائمًا إن الأرقام لا تكذب؟ هذه البيانات حاسمة للغاية، لأنها ستشكل رؤية البنك المركزي لمسار الفائدة المستقبلي. فهل سيرى الفيدرالي أن التضخم يتطلب إجراءات أكثر صرامة، أم أن هناك مجالاً لبعض المرونة؟ التكهنات تتوالى، والأسواق تتأهب لكل احتمال. وفي خضم هذا الترقب، خرج ستيفن ميران، العضو الجديد في مجلس محافظي الفيدرالي، بتحذير لافت يوم أمس، مشددًا على أن البنك المركزي قد يُعرض سوق العمل للخطر إذا لم يتم خفض الفائدة بصورة كبيرة. تصريح كهذا يضيف طبقة أخرى من التعقيد للمشهد، ويدفع المستثمرين للتحليل والتفكير العميق.
لكن هذه الصورة الوردية للارتفاعات لم تدم طويلاً في ذاكرة السوق، فقبل هذا الانتعاش بيومين فقط، شهدت أسواق العملات المشفرة “موجة بيع حادة” لا ترحم. كانت أشبه بضربة مفاجئة هزت أركان السوق، حيث تم تصفية رهانات تجاوزت قيمتها 1.5 مليار دولار. تخيل مبلغًا بهذا الحجم يتبخر في غمضة عين! هذا الأمر أدى إلى هبوط جماعي في أسعار أبرز الأصول الرقمية، وكأن الأرض انشقت وابتلعت جزءًا من قيمتها.
في يوم الإثنين تحديدًا، تراجعت “بتكوين” بأكثر من 3%، لتكسر حاجز الـ 112 ألف دولار، قبل أن تتمكن من تقليص بعض خسائرها لاحقًا. إيه اللي حصل بالظبط؟ ببساطة، كانت الدنيا قالبة. أظهرت بيانات من منصة “Coinglass” أن حوالي 1.5 مليار دولار من المراكز الطويلة (long positions) عبر مختلف العملات المشفرة قد تعرضت للتصفية في يوم واحد فقط. لم تكن هذه مجرد عملية بيع عادية، بل كانت أكبر موجة خسائر تشهدها الأسواق منذ عدة أشهر، تاركةً وراءها حطامًا للكثيرين.
المتضرر الأكبر من هذه الموجة كان “أكثر من 400 ألف متداول” تكبدوا خسائر فادحة في رهاناتهم المرفوعة بالرافعة المالية. يا دوب كانوا فاكرين إنهم ماشيين صح، لكن فجأة كل حاجة اتقلبت. لم تكن “بتكوين” الوحيدة التي تألمت؛ فـ “إيثر” هبطت بنسبة وصلت إلى 9%، وسجلت عملات بديلة أخرى مثل “دوج كوين” خسائر حادة أيضًا. كان المشهد أشبه بسقوط أحجار الدومينو، عندما تسقط واحدة، تتبعها الأخريات بسرعة.
لكن ما الذي دفع هذه الموجة الهائلة من البيع والتصفية؟ وفقًا للتقارير، جاءت هذه العمليات مدفوعة بـ”المراكز المفرطة” و”السيولة الضعيفة” في السوق. تخيل أن لديك بناءً ضخمًا مبنيًا على أساسات هشة؛ أدنى هزة قد تسقطه. هكذا كانت المراكز المرفوعة بالرافعة المالية، كانت كثيرة جدًا وبدون دعم كافٍ، مما ضاعف من حدة التقلبات السعرية. وليزيد الطين بلة، زاد من تفاقم الخسائر وجود متعاملين بعقود خيارات كانت تعتمد على المراهنة على تحركات سعرية حادة. يعني، كانوا بيراهنوا على تقلبات كبيرة، ولما حصلت، انقلب السحر على الساحر.
في خضم هذا كله، يستعد السوق لحدث آخر ذي أهمية بالغة وهو “انتهاء صلاحية ضخمة لعقود الخيارات” يوم الجمعة القادمة. تشير بيانات من منصة “Deribit” إلى أن أكثر من 23 مليار دولار من عقود “بتكوين” و”إيثريوم” ستنتهي صلاحيتها. هل تتخيل حجم هذا الرقم؟ إنه واحد من أضخم الأحداث من نوعها على الإطلاق، مما يجعل المستثمرين يتساءلون: هل ستشهد الأسواق هدوءًا نسبيًا بعد هذه التقلبات، أم أن هذا الحدث سيطلق موجة جديدة من التحركات الكبيرة، صعودًا أو هبوطًا؟
في النهاية، ما نشهده في أسواق العملات المشفرة ليس مجرد تقلبات عادية، بل هو انعكاس لديناميكيات معقدة تتأثر بالسياسات النقدية العالمية، وسلوك المستثمرين، وحتى مجرد التوقعات والترقبات. إنها رحلة مستمرة بين الخوف والطمع، حيث يمكن لمكاسب الأمس أن تتحول إلى خسائر اليوم في لمح البصر. يبقى السؤال الأهم لكل مستثمر: هل أنت مستعد للركوب في هذه السفينة الدوارة، أم أنك تفضل البحث عن استثمارات أقل تقلبًا؟ سواء كنت مغامرًا أو حذرًا، فإن فهم هذه الديناميكيات هو مفتاح البقاء في هذا العالم المثير والمعقد.