من بابل، مهد الحضارات العريقة التي شهدت على ميلاد قوانين حمورابي وشوامخ بوابات عشتار، يبرز اليوم طموح جديد، لا يتعلق بعظمة الماضي فحسب، بل يتطلع إلى بناء مستقبل صناعي مزدهر. لقد أعلنت الحكومة العراقية مؤخرًا عن خطوة جريئة: تحويل هذه المحافظة ذات الإرث التاريخي العميق إلى “عاصمة العراق الصناعية”. قرار يثير تساؤلات كثيرة بين مؤيد يرى فيه بارقة أمل لنهضة اقتصادية، ومعارض يخشى أن يكون مجرد عنوان براق على ورق، لا يغير من واقع التحديات شيئًا. فهل ستكون بابل حقًا قاطرة الصناعة العراقية، أم أنها ستظل أسيرة الوعود التي لا تتجاوز حدود التصريحات الإعلامية؟
جاء الإعلان الرسمي، الذي أطلقه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يوم الاثنين الموافق 22 سبتمبر/أيلول الجاري، ليضع بابل في دائرة الضوء الاقتصادي. وأكد السوداني أن هذا الاختيار لم يأتِ من فراغ، بل يستند إلى مقومات جوهرية تتميز بها المحافظة. فهي، كما أوضح، تُعد مركزًا حيويًا لخطوط النقل، ما يمنحها ميزة لوجستية لا تقدر بثمن، إضافة إلى قدرتها المتأصلة على إحداث تكامل بين القطاعين الزراعي والصناعي، وهو ما يُعتبر ركيزة أساسية لأي اقتصاد مستدام.
وفي هذا السياق، سارع المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، الدكتور مظهر محمد صالح، إلى تأكيد الأبعاد الاستراتيجية لهذا القرار. ففي حديثه، أوضح صالح أن هذه الخطوة تمثل تحولًا محوريًا في دعم القطاع الصناعي الوطني، وتندرج ضمن مساعي الحكومة الدؤوبة لتنشيط الاقتصاد من خلال تطوير البنية التحتية الصناعية في مختلف المحافظات. وربما يكون الأهم في تصريحاته هو الإشارة إلى أن بابل ليست غريبة عن الصناعة، بل هي تحتضن بالفعل قاعدة صناعية ضخمة تضم أكثر من 2000 مصنع عامل. تخيل معي، ألفين مصنع شغالين، ده رقم مش قليل أبداً! هذه الخبرة الصناعية المتراكمة، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الذي يجعلها حلقة وصل استراتيجية بين شمال العراق وجنوبه، وقربها من العاصمة بغداد، كل هذه العوامل تسهل من عمليات النقل والتبادل التجاري وتجعلها مرشحًا طبيعيًا لمثل هذا الدور الريادي. وأضاف صالح أن هذه الرؤية ستسهم في تقليل المركزية الصناعية التي طالما تركزت في بغداد، وتوزع النمو الاقتصادي بشكل أكثر توازنًا، تماشياً مع “رؤية العراق التنموية 2050”.
لكن، لكل قصة وجه آخر. فبينما يعلق البعض آمالاً عريضة على هذا القرار، يرى آخرون أنه مجرد “حبر على ورق”، لا يتجاوز كونه لفتة رمزية في أحسن الأحوال. محمد المنصوري، عضو مجلس محافظة بابل، لم يتردد في انتقاد الإعلان بشدة، مؤكدًا أنه لن يحل مشاكل المحافظة الجوهرية. يا جماعة، الناس هناك بتعاني بجد، مش كفاية وعود! المنصوري، في تصريحاته، شدد على أن بابل تعاني من بنية تحتية متهالكة وتهميش واضح من قبل الحكومة الاتحادية، وأنها بحاجة ماسة إلى دعم مالي وإعمار شامل قبل التفكير في مشاريع اقتصادية متخصصة. وأشار إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في تركيز الحكومة الاتحادية على القطاع الخاص وإهمالها الواضح للقطاع الحكومي، وهو ما يتناقض مع الممارسات العالمية التي تعتمد على كلا القطاعين مع إعطاء الأولوية للاستثمار الحكومي في مراحل التأسيس. هل يعقل أن نبني نهضة صناعية حقيقية على هذه الأسس الواهية؟
ولإضفاء المزيد من التشاؤم على الصورة، ذكّر المنصوري بأن بابل عايشت العديد من الوعود الحكومية السابقة التي لم تُنفذ قط. والمثال الأبرز هنا هو مشروع مطار بابل الدولي، الذي أُعلن عنه عام 2016 ولم يكتمل حتى يومنا هذا. “دي كده تبقى دعاية انتخابية وبس”، هكذا لخص المنصوري وجهة نظره، مشددًا على أن جميع المشاريع المقترحة تحتاج إلى سيولة مالية ودعم مباشر من الحكومة المركزية. وقال إن المحافظة لا تستعيد سوى 20% فقط من عائداتها المالية، بينما تذهب النسبة المتبقية لخزينة الدولة، رغم المطالبات المتواصلة برفع حصتهم إلى 75%. في رأيه، هذا التجاهل هو السبب الرئيسي وراء عدم نهوض المحافظة، مؤكداً أن “بابل مهمشة ولم تحصل على أي دعم يُذكر، وهذا الإعلان لن يغيّر شيئًا وسيبقى مجرد إعلان إعلامي لا يحل مشاكلها.”
تتفق هذه المخاوف مع ما طرحه الباحث الاقتصادي حيدر الشيخ، الذي يرى أن إعلان بابل كعاصمة صناعية قد لا يتعدى كونه مجرد لقب، نظرًا للتحديات الضخمة التي قد تحول دون ترجمته إلى واقع ملموس. الشيخ أشار إلى أن البنية التحتية في بابل، خاصة شبكات الكهرباء والمياه والطرق، ضعيفة للغاية وغير مهيأة لاستيعاب مشاريع صناعية كبرى، مما قد يعيق تقدمها ويرفع من تكاليفها بشكل هائل. فضلاً عن ذلك، يتهدد المشروع نقص الميزانيات المخصصة وتأخر التمويل، بالإضافة إلى البيروقراطية المستحكمة والفساد الذي قد ينفر الاستثمارات ويقوض فرص النجاح. وهناك نقطة أخرى مهمة، هل سيؤدي منح هذا اللقب لبابل إلى تهميش محافظات عراقية أخرى ذات إمكانات اقتصادية كبيرة، مثل البصرة أو غيرها من المناطق الزراعية والصناعية؟ هذا قد يخلق تنافسًا غير صحي في غياب استراتيجية وطنية واضحة لتوزيع الأدوار الاقتصادية. وأخيرًا وليس آخرًا، هناك خطر حقيقي يهدد المواقع الأثرية والتاريخية في بابل إذا لم تُرسم خطط حماية دقيقة، مما قد يهدد تراث المحافظة العريق.
ولمزيد من التعقيد، أكد الخبير المالي نبيل جبار التميمي على نقطة بالغة الأهمية: أن إعلان بابل “عاصمة العراق الصناعية” لم يُدعَم بقرارات رسمية من مجلس الوزراء. وهذا، بكل بساطة، يعني أنه يفتقر للغطاء القانوني اللازم لتوفير المخصصات المالية وتطبيق المشروع بفعالية. كأنك بتبني بيت من غير أساسات يا سيدي، هيقع في أول هواء. يرى التميمي أن الفكرة تبدو وكأنها مبادرة شخصية من محافظ بابل، عدنان فيحان، الذي يسعى لجعل المحافظة مركزاً للصناعات والمعامل لتعزيز إيراداتها، خاصة وأنها ليست محافظة حدودية ولا تمتلك امتيازات خاصة تخولها الحصول على حصص أو منافع إضافية من الحكومة المركزية. ورغم إشادته بخطة الإدارة الجديدة للمحافظة بالتركيز على جذب الاستثمارات في قطاع الصناعة، إلا أنه شدد على أن الإعلان ما زال مجرد خطوة تسويقية مبكرة لجذب المستثمرين، ويفتقر إلى سند قانوني رسمي يمنح المحافظة امتيازات مالية واقتصادية حقيقية، كزيادة الإنفاق على البنية التحتية، أو تحسين شبكات الطرق، أو حتى سن قوانين خاصة تمنح تسهيلات ضريبية وتتيح إنشاء مناطق حرة وصناعية.
في النهاية، يبدو أن طريق بابل نحو أن تكون “عاصمة العراق الصناعية” محفوف بالآمال والتحديات على حد سواء. إنها فكرة طموحة تستدعي الإعجاب، لكنها تصطدم بواقع مرير من نقص التمويل، والبنية التحتية المتدهورة، والبيروقراطية المترسخة. هل سيتمكن هذا الإعلان من تجاوز كونه مجرد “تصريح” ليتحول إلى “مشروع وطني” حقيقي يدعم بتشريعات وميزانيات وخطط تنفيذية واضحة؟ أم أن بابل، التي شهدت عظمة الإمبراطوريات، ستظل تشهد تكرار حكايا الوعود الكبيرة التي تتبخر مع أول نسمة رياح؟ الإجابة لا تزال معلقة في انتظار ما ستحمله الأيام القادمة، ولكن المؤكد أن العيون كلها تراقب، وتتطلع إلى أن تكون هذه المرة مختلفة بالفعل.