في خضم عالم يتغير بسرعة البرق، وحيث تتأرجح العملات وتتراقص الأسواق على إيقاع الأزمات والقرارات الاقتصادية الكبرى، يظل هناك معدن واحد يحتفظ ببريق خاص، ويُعد ملاذًا آمنًا لمدخرات الناس وأحلامهم. هل ما زال الذهب هو الملاذ الأمثل في زمن الاضطرابات؟ يبدو أن الإجابة تتجلى بوضوح في أسواقنا المحلية والعالمية هذه الأيام. ففي يوم الثلاثاء، الثالث والعشرين من سبتمبر لعام 2025، استيقظ المصريون على واقع اقتصادي جديد، واقع يحمل في طياته صعودًا صاروخيًا لأسعار الذهب، محطمًا بذلك كل التوقعات ومسجلًا أرقامًا قياسية غير مسبوقة. هذا الارتفاع لم يكن مجرد تقلب عابر، بل هو انعكاس لموجة عالمية عاتية اجتاحت أسواق المعدن الأصفر، تاركة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء في حالة من الترقب المشوب بالحذر.
الانعكاس المباشر لهذا الزلزال العالمي لم يتأخر كثيرًا في الوصول إلى أرض الكنانة. فجأة، وبدون مقدمات تُذكر، قفز سعر الجنيه الذهب قفزة هائلة تجاوزت 800 جنيه مصري في لحظة واحدة، يا جماعة تخيلوا الرقم ده! أما جرام الذهب عيار 21، الذي يُعد المعيار الأبرز لتداولات الذهب في مصر، فقد لامس سقفًا تاريخيًا لم يشهده من قبل، ليؤكد بذلك الجاذبية المتزايدة للذهب كحصن منيع ضد تقلبات الزمن الاقتصادي. إنها ليست مجرد أرقام تُسجل على شاشات العرض؛ بل هي شهادة حية على التحول نحو الاستثمار في المعادن الثمينة، وخاصة في ظل هذه الظروف العالمية التي قد توصف بأنها “مش مستقرة بالمرة”، على حد تعبير خبراء الاقتصاد.
ما يحدث في السوق المحلي لم يكن معزولاً عن باقي العالم، بل هو جزء من صورة أكبر بكثير. فقد أكدت شعبة الذهب والمجوهرات، بوضوح تام، أن هذا الارتفاع الدراماتيكي تزامن مع قفزة جنونية في الأسعار العالمية، حيث تجاوز سعر الأوقية حاجز 3720 دولارًا، محققًا أعلى مستوى له في تاريخه الحديث. تخيلوا معي، منذ عقود طويلة لم يرَ الذهب هذا البريق، ولم يصل إلى هذا السقف الشاهق. هذه القفزة، بصراحة، تجعل المرء يتساءل: ما الذي يدفع هذا المعدن الأصفر إلى مثل هذه المستويات الجنونية؟
الجواب يكمن في قلب القرارات الاقتصادية التي تتخذها البنوك المركزية حول العالم. فالمحرك الأساسي لهذه الموجة الصعودية يعود إلى سلسلة من الإجراءات التي اتخذت مؤخرًا، لاسيما قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسبوع الماضي بخفض أسعار الفائدة على الدولار بمقدار 25 نقطة أساس. هذا الإجراء، البسيط في لفظه، كان له تأثير هائل. فعندما تقل الفائدة على الدولار، يصبح الاحتفاظ به أقل جاذبية للمستثمرين الكبار، فيتحولون فورًا إلى بدائل أخرى أكثر أمانًا وربحية، وأي بديل أفضل من الذهب في هذه الحالة؟ هذا هو ما حدث بالضبط؛ بدأت رؤوس الأموال الضخمة تتدفق بكثافة نحو شراء الذهب، ليصبح الملاذ الآمن الأوحد والأكثر فعالية للتحوط ضد تقلبات الأسواق التي لا ترحم.
ولكن، هل توقف القفز عند هذا الحد؟ توقعات شعبة الذهب والمجوهرات لا تبشر بذلك، بل تشير إلى استمرار هذا الاتجاه التصاعدي القوي حتى نهاية العام الحالي. والسبب؟ توقعات بتخفيضات إضافية في أسعار الفائدة خلال شهري أكتوبر وديسمبر المقبلين. يعني الموضوع باين إن الذهب لسه فيه كلام تاني خالص. يرى المحللون أن هذه التخفيضات ستزيد من جاذبية الذهب، مما يعزز الطلب العالمي عليه، وقد يدفع الأسعار إلى مستويات تاريخية جديدة تمامًا لم نتخيلها. منذ بداية عام 2025، سجل المعدن الأصفر ارتفاعًا مذهلاً بنسبة 40%، وهو معدل غير مسبوق يكشف حجم التأثير العميق للأوضاع الجيوسياسية المتوترة في العالم، والتغيرات المستمرة في السياسات الاقتصادية للدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولنتوقف قليلًا عند الأرقام المحلية التي تهم كل بيت مصري، ففي السوق المصري، وصل سعر جرام الذهب عيار 24 إلى نحو 5737 جنيهًا. أما عيار 21، الأكثر رواجًا، فقد سجل 5020 جنيهًا للجرام الواحد. وبالنسبة لعيار 18، فوصل إلى 4302 جنيه. أما الجنيه الذهب، الذي أصبح محط أنظار الكثيرين كوعاء ادخاري، فقد قفز إلى 40,160 جنيهًا، بينما حافظت أوقية الذهب عالميًا على سعرها المرتفع عند 3728 دولارًا. ونقطة مهمة هنا لازم نخلي بالنا منها: أسعار المصنعية بتختلف من تاجر لتاجر ومن محافظة لمحافظة، وبتتراوح بين 30 و65 جنيهًا للجرام الواحد، وممكن توصل الزيادة في بعض الحالات إلى 150 جنيهًا على سعر جرام عيار 21، يعني مش كل محل زي التاني، ودي حاجة معروفة عندنا.
في الختام، يؤكد خبراء الاقتصاد أن هذه الموجة الصعودية المستمرة للذهب ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي انعكاس مباشر ودقيق للتحولات الجارية في السياسات النقدية العالمية. فالمستثمرون، مدفوعون بحرصهم على التحوط من المخاطر المتزايدة، يبحثون عن الأصول التي تحتفظ بقيمتها، خاصة مع تراجع عوائد الدولار. هل الذهب هو سفينة النجاة الوحيدة في هذا البحر المضطرب؟ يبدو أنه الأقوى في الوقت الحالي. من المتوقع أن يظل الذهب في صدارة اهتمامات المستثمرين خلال الفترة المقبلة، مع تزايد الطلب عليه كأصل استثماري أساسي. هذه الموجة التاريخية من الارتفاعات، التي بدأت منذ مطلع العام، تفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات كثيرة حول مستقبل الاستثمار، ومستقبل الثروات الشخصية. فهل نرى الذهب يحلق إلى مستويات أعلى، أم أن لكل صعود نقطة توقف؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف لنا بقية القصة.