هل لاحظت في الفترة الأخيرة أن جيبك لم يعد يستوعب الكثير، وأن قلقاً خفياً بات يراود الكثيرين بشأن الغد الاقتصادي؟ هذه التساؤلات ليست مجرد همسات فردية، بل هي صدى لتحديات اقتصادية معقدة تواجه العالم، وتحديداً الولايات المتحدة، التي لطالما كانت محركاً رئيسياً للاقتصاد العالمي. وفي خضم هذه الأجواء الملبدة بالضباب، يطل علينا رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، ليرسم صورة دقيقة للواقع، صورة تحمل في طياتها مزيجاً من الثبات والحذر، وكأنها مرآة تعكس ما يدور في أذهان الكثيرين.

مؤخراً، وفي حديث مهم ألقاه أمام غرفة تجارة “بروفيدنس” بولاية رود آيلاند، لم يُخفِ باول شيئاً. اعترف الرجل بأن الاقتصاد الأمريكي أظهر مرونة لافتة، نوع من الصمود كده، بصراحة إحنا ما كناش متوقعينه بالرغم من كل التغيرات الكبيرة في السياسات التجارية والهجرة والمالية. لكن هذه المرونة لم تكن قادرة على إخفاء حقيقة أن وتيرة النمو تباطأت بشكل ملحوظ، وأن شبح التضخم لا يزال يخيّم، وإن كان بوتيرة “مرتفعة نسبياً” وليست جنونية.

التحرك الأخير للبنك المركزي، بخفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، لم يكن مجرد قرار فني جاف؛ بل كان محاولة للموازنة الدقيقة. باول أوضح أن هذا التعديل يقرب السياسة النقدية من “المستوى الحيادي”، أي نقطة التوازن التي لا تحفز النمو ولا تكبحه. ورغم ذلك، لا تزال هذه السياسة تميل قليلاً إلى التقييد، وكأنها تمشي على حبل رفيع، لا ترغب في الوقوع في فخ التضخم الجامح، ولا تريد أن تخنق أي بصيص للأمل في النمو.

لكن ما الذي يدعو للقلق حقاً؟ الأرقام تتحدث. ففي أغسطس الماضي، ارتفع معدل البطالة إلى 4.3%، وهذا في حد ذاته مش مؤشر كويس. والأدهى من ذلك، أن وتيرة خلق الوظائف شهدت تباطؤاً ملحوظاً خلال فصل الصيف، لتصل إلى متوسط 29 ألف وظيفة شهرياً فقط. تخيل يا صديقي، 29 ألف وظيفة! هذا الرقم، للأسف، أقل بكثير من المطلوب للحفاظ على استقرار سوق العمل وامتصاص الداخلين الجدد إليه. فهل يعقل أن يكون هذا هو الحال في اقتصاد بحجم أمريكا؟

أما التضخم، فحدث ولا حرج. البيانات أظهرت أن التضخم السنوي بلغ 2.7% في أغسطس، بينما وصل التضخم الأساسي إلى 2.9%. باول أرجع جزءاً من هذا الارتفاع إلى الرسوم الجمركية الأخيرة، التي وإن وصف تأثيرها بأنه “مؤقت”، إلا أنه حذر من أنها قد تمتد لعدة أرباع مالية. يعني باختصار، مشكلة وهتفضل معانا شوية، وده بيخلي قراراتنا كأفراد أو كشركات أصعب شوية.

هنا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه صانعي السياسات النقدية: كيف يمكن لهم أن يضبطوا الإيقاع؟ باول حذر من “مخاطر مزدوجة” حقيقية تهدد الاقتصاد. فالتيسير النقدي المفرط، يعني إغراق السوق بالسيولة، قد يبقي التضخم مرتفعاً لفترة أطول، ويسلب قيمة مدخرات الناس. بينما التشديد المبالغ فيه، يعني رفع الفائدة أكثر من اللازم، قد يؤدي إلى إضعاف سوق العمل بلا داعٍ، وتفقد الناس وظائفها. السياسة النقدية، كما أكد، “ليست على مسار محدد سلفاً”، بل تتطلب مرونة وتكيفاً مستمرين مع البيانات الاقتصادية الفعلية. كأنها قيادة سفينة في بحر هائج، لازم القبطان يغير الدفة كل شوية حسب قوة الموج.

وما يزيد الطين بلة، السياق التاريخي. باول ذكّر بأن الاقتصاد الأمريكي واجه خلال العقدين الماضيين أزمتين عالميتين طاحنتين: الأزمة المالية في 2008 وجائحة كورونا في 2020. تلك الصدمات، وإن كانت السياسات الاستثنائية حينها قد ساعدت على تفادي مخاطر كبرى، إلا أنها تركت آثاراً طويلة الأمد. الأهم من ذلك، أنها أثرت على ثقة الجمهور بالمؤسسات الاقتصادية والسياسية. وهذه الثقة المهزوزة، يا صاحبي، تجعل مهمة إدارة السياسة النقدية اليوم أكثر تعقيداً وسط ما وصفه بـ “رياح عاصفة وتحديات متشابكة”. يعني الموضوع مش مجرد أرقام، الموضوع نفسي كمان!

في نقطة محورية كشف عنها باول، أشار إلى أن ضعف سوق العمل أصبح يشكل أولوية أكبر للبنك المركزي مقارنة بمخاوف التضخم. هذا تحول كبير في الاستراتيجية، فالهف الأساسي الآن هو حماية الوظائف، حتى لو ظل التضخم فوق المستوى المستهدف قليلاً. الرجل وصف الوضع الراهن بأنه أشبه بـ “ركود تضخمي مصغر”. يعني إيه الكلام ده؟ يعني النمو متباطئ، لكن التضخم لسه موجود، وإن كان بوتيرة أقل بكثير من المستويات المرعبة اللي شفناها في السبعينيات والثمانينيات. لكنه يظل تحدياً إضافياً يثقل كاهل صانعي السياسة.

في نهاية المطاف، تصريحات جيروم باول ليست مجرد قراءة اقتصادية جافة، بل هي دعوة للتفكير في المستقبل. إنها تضعنا أمام حقيقة أن الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الأمريكي على وجه الخصوص، يمر بمرحلة دقيقة تتطلب حكمة وترقباً. فالمعركة بين الحفاظ على الوظائف وكبح جماح الأسعار ليست مجرد نظرية اقتصادية، بل هي صراع يومي يؤثر في قوتنا الشرائية، وفي أمننا الوظيفي، وفي ثقتنا بمستقبل أولادنا. فهل سينجح القائمون على دفة الاقتصاد في تحقيق التوازن المطلوب، أم أننا سنستمر في هذا المشي الحذر على الحبل الرفيع؟ الأيام القادمة وحدها من ستحمل الإجابة، ويبقى علينا أن نتابع عن كثب كل إشارة وكل رقم، لأن مصيرنا الاقتصادي مرتبط بتلك القرارات الكبيرة.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.