رسوم الـ100 ألف دولار: هل يطرد وادي السيليكون عمالقة الابتكار إلى الخارج؟
في عالم تتسارع فيه وتيرة الابتكار وتشتعل فيه المنافسة العالمية على استقطاب العقول النيرة، فجأة، يجد عمالقة وادي السيليكون أنفسهم أمام فاتورة باهظة، تكاد تكون صادمة: مائة ألف دولار! هذا ليس ثمن سيارة فارهة، بل رسوم توظيف موهبة أجنبية جديدة. سؤال يفرض نفسه بقوة: هل تخاطر الولايات المتحدة بسياسات تهدف ظاهرياً لحماية الوظائف المحلية، لكنها عملياً تدفع الشركات، التي تعد قاطرة اقتصادها، إلى التفكير جدياً في نقل مراكزها البحثية ووظائفها إلى ما وراء البحار؟ يا ترى، هل تتحول “أمريكا أولاً” إلى “العالم أولاً” فيما يخص استقطاب الأدمغة؟
هذا هو المشهد الجديد الذي فرضته الإدارة الأمريكية بتعديلها الأخير لبرنامج تأشيرات “إتش-وان بي” (H-1B)، الذي طالما كان الشريان الحيوي الذي يمد شركات التكنولوجيا الأمريكية بأمهر المهندسين والعلماء من جميع أنحاء العالم. هذا البرنامج، الذي يشجع أيضاً الطلاب الدوليين على متابعة دراساتهم العليا في الولايات المتحدة، كان بمثابة جسر ذهبي يربط الجامعات الأمريكية بقطاع التكنولوجيا المزدهر. لكن الإدارة الحالية رأت فيه ثغرة، معلنة يوم الجمعة الماضي عن تعديلات جذرية. الهدف المعلن كان حماية الوظائف المحلية وفتح المزيد من الفرص للعاملين الأمريكيين، لكن التداعيات الأولية تشير إلى نتيجة عكسية تماماً.
لكن، وكما يقول المثل: “الخوف سيد الموقف”. هذا القرار، ورغم توضيحه لاحقاً بأنه ينطبق على المتقدمين الجدد فقط وليس على الحاصلين الحاليين على التأشيرات، ألقى بظلاله الكثيفة على خطط التوظيف والموازنات التشغيلية وقوى العمل في شركات التكنولوجيا. الغموض المحيط بالتطبيق الفعلي للرسوم، وتكلفتها الفلكية، دفعت هذه الشركات بالفعل إلى تعليق التوظيف، في انتظار وضوح الصورة. “أجريت عدة محادثات مع عملاء من الشركات… وقد أكدوا أن هذه الرسوم الجديدة ببساطة غير قابلة للتطبيق داخل الولايات المتحدة، وحان الوقت للبحث عن دول أخرى يمكننا فيها الوصول إلى مواهب عالية المهارة.” هكذا صرح كريس توماس، المحامي في شركة “هولاند آند هارت” بولاية كولورادو، مضيفاً: “بصراحة، الرسوم دي مستحيلة التطبيق جوه أمريكا، ولازم ندور على حلول بره.” وأشار توماس إلى أن هذه ليست شركات صغيرة، بل كيانات عملاقة، بعضها يندرج ضمن قائمة “فورشن 100″، وهي تقول بوضوح إنها لا تستطيع الاستمرار بهذا الوضع.
تخيل معي الفارق الهائل: قبل هذا التعديل، لم تتجاوز رسوم تأشيرة H-1B بضعة آلاف من الدولارات. أما الآن، فقد بات المبلغ 100 ألف دولار. هذا الفارق ليس مجرد رقم، بل هو محرك استراتيجي يدفع الشركات لإعادة تقييم كل حساباتها. الآن، بات التوظيف في دول مثل الهند، حيث الأجور أقل بكثير، وتتبنى شركات التكنولوجيا الكبرى هناك مراكز ابتكار متقدمة بدلاً من مجرد مكاتب خلفية، أكثر جاذبية بكثير. هذه المعادلة الاقتصادية البسيطة لا تحتاج إلى خبراء كثر لشرحها. سام ليانغ، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Otter المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، لم يتردد في التعبير عن مخاوفه: “من المحتمل أن نضطر إلى تقليل عدد العاملين بتأشيرات (إتش-وان بي) الذين يمكننا توظيفهم. بعض الشركات قد تضطر إلى الاستعانة بمصادر خارجية، وربما توظيف في الهند أو دول أخرى لتجاوز هذه المشكلة.” هذه ليست تكهنات، بل قرارات على وشك أن تتخذها شركات قد تشعر بأنها بلا خيارات أخرى.
قد يظن البعض أن هذا القرار لاقى إجماعاً بالرفض من الجميع. لكن الحقيقة، زي ما بيقولوا، أكتر تعقيداً. ففي حين ترحب الأوساط المحافظة منذ زمن بسياسات ترمب الواسعة للهجرة، حظي هذا التحرك بدعم غير متوقع من بعض الدوائر الليبرالية أيضاً. ريد هاستينغز، الشريك المؤسس لشركة “نتفليكس” ومانح بارز للحزب الديمقراطي، رأى أن الرسوم الجديدة ستلغي الحاجة إلى نظام اليانصيب المعقد المتبع حالياً، وتخصص التأشيرات للوظائف “ذات القيمة العالية جداً” بشكل أكثر وضوحاً. لكن هل هذا هو الهدف الوحيد؟
هنا يبرز سؤال جوهري: هل يتأثر الجميع بنفس الدرجة؟ ديدي داس، الشريك في شركة “مينلو فينتشرز” التي استثمرت في شركات ناشئة واعدة، يرى أن “الأحكام الشاملة مثل هذه نادراً ما تكون جيدة للهجرة”، وأنها ستؤثر بشكل غير متناسب على الشركات الناشئة تحديداً. فلماذا هذا التمييز؟ ببساطة، تختلف حزم التعويضات في الشركات الناشئة عن نظيراتها في الشركات العملاقة. فالشركات الكبرى تجمع بين المال والأسهم في تعويضات موظفيها، مما يجعل لديها مرونة مالية أكبر. أما الشركات الناشئة، فتعتمد بشكل أكبر على الأسهم بسبب حاجتها للسيولة لبناء أعمالها وتطوير منتجاتها. “بالنسبة للشركات الكبرى، التكلفة دي ممكن تكون مجرد بند إضافي بسيط في ميزانيتها الضخمة، وهيدفعوها عادي. لكن بالنسبة للشركات الصغيرة اللي عدد موظفيها أقل من 25، فهي عبء كبير جداً وممكن يشل حركتها. مديرو شركات التكنولوجيا الكبرى توقعوا ده وهيدفعوا، وبالتالي قلة المنافسين الصغار تمثل ميزة لهم. الشركات الناشئة الصغيرة هي الأكثر تضرراً.” هكذا يصف داس الوضع، مشيراً إلى أن القرار قد يعزز احتكار العمالقة على حساب الشركات الصاعدة.
لكن الأخطر من ذلك كله هو التأثير على روح الابتكار التي لطالما ميّزت وادي السيليكون وجعلت من أمريكا رائدة في قطاع التكنولوجيا. أليست أمريكا هي أرض الفرص التي بنيت على أحلام المهاجرين؟ محللون يحذرون من أن هذه السياسة قد تؤدي إلى انخفاض عدد المهاجرين الموهوبين الذين غالباً ما يؤسسون شركات جديدة. فوفقاً لتقرير صادر عام 2022 عن المؤسسة الوطنية للسياسة الأمريكية، وهي مؤسسة فكرية غير حزبية، فإن أكثر من نصف الشركات الناشئة الأمريكية التي تُقدر قيمتها بمليار دولار أو أكثر كان لها على الأقل مؤسس واحد مهاجر. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي قصص نجاح أسهمت في خلق ملايين الوظائف ودفعت عجلة الاقتصاد. بلال زوبيري، مؤسس شركة “رد غلاس فينتشرز” في وادي السيليكون، والذي بدأ مسيرته في الولايات المتحدة بتأشيرة H-1B، يلخص المخاوف قائلاً: “إذا لم يحدث ذلك [تراجع عن القرار]، فسنشهد انسحاب أذكى الأشخاص من جميع أنحاء العالم.”
في خضم هذا المشهد المعقد، لا تزال هناك بارقة أمل لدى بعض الشركات، خصوصاً الناشئة منها. حيث تراهن هذه الشركات على دعاوى قضائية تقول إن الإدارة تجاوزت سلطتها بفرض رسوم تتجاوز ما حدده الكونغرس. الأمل يكمن في أن تخفف المحاكم من حدة القرار قبل أن تعوق هذه التكاليف الباهظة قدرتها على التوظيف والبقاء في حلبة المنافسة. لكن هل ستأتي هذه الأحكام في الوقت المناسب؟
ما الذي يعنيه كل هذا لوادي السيليكون، قلعة الابتكار العالمية، وللمستقبل الاقتصادي لأمريكا بشكل عام؟ هل تخاطر الولايات المتحدة بتجريد نفسها من مصدر حيوي للنمو والابتكار، وهي التي لطالما كانت قبلة لأمهر العقول من كل حدب وصوب؟ قد يكون الهدف المعلن حماية الوظائف الأمريكية، لكن الواقع على الأرض يشير إلى أن السياسات المتشددة قد تدفع المواهب والوظائف إلى الخارج بدلاً من الاحتفاظ بها في الداخل. في النهاية، قد يكون الثمن الحقيقي لهذه الرسوم ليس في المائة ألف دولار التي تدفع، بل في العقول النيرة التي قد تختار البحث عن أرض أخرى لاحتضان أحلامها وطموحاتها، تاركة وراءها فراغاً قد يصعب ملؤه في قلب وادي السيليكون.