سوق العملات المشفرة: هدوء حذر وعواصف متوقعة.. بيتكوين تتأرجح بين تصفية المليارات وقرارات الفيدرالي
في عالم المال الرقمي، حيث تتسارع الأحداث بوتيرة جنونية، قد يبدو السكون أحياناً أشد قلقاً من العواصف الصاخبة نفسها. هذا بالضبط ما شهده سوق العملات المشفرة، وتحديداً بيتكوين، خلال الأيام الماضية، إذ لا تزال التوترات تتزايد تحت السطح الهادئ نسبياً، وسط ترقب لمواجهة أحداث كبرى قد تعيد تشكيل المشهد بالكامل.
بالأمس، الاثنين، كان يومًا قاسياً بلا شك على الكثيرين. تخيل عزيزي القارئ أن تصحو لتجد أن نحو مليار ونصف المليار دولار قد تبخرت من محافظ المتداولين في غمضة عين! نعم، هذا الرقم الفلكي يمثل إجمالي قيمة “المراكز الطويلة” التي تمت تصفيتها عبر مختلف العملات المشفرة خلال 24 ساعة فقط، وذلك في أكبر موجة خسائر يشهدها السوق منذ شهور طويلة. لم تكن بيتكوين وحدها هي الضحية، فـ “الإيثر” هبط بنحو 9%، وعملات أخرى مثل “دوجكوين” سجلت تراجعات حادة، وكأنها بتقول لنا: “مش أنا لوحدي اللي بتوجع.”
طيب، إيه اللي حصل بالظبط عشان نوصل للمرحلة دي؟ التحليلات تشير إلى أن موجة البيع العنيفة هذه كانت مدفوعة بشكل أساسي بتكدس “المراكز المفرطة” (Over-leveraged positions) التي يعتمد فيها المتداولون على الرافعة المالية، بالإضافة إلى “السيولة الضعيفة” في السوق، مما ضاعف من حدة التقلبات السعرية وجعل الانزلاق أسهل وأسرع. والأدهى من ذلك، أن وجود متداولين بعقود خيارات كانت تراهن على تحركات سعرية حادة، زاد من تفاقم الخسائر بشكل لم يكن في الحسبان. هؤلاء المتداولون، الذين تجاوز عددهم 400 ألف، وجدوا رهاناتهم تتحول إلى خسائر فادحة، في مشهد يعكس قسوة التعامل برافعة مالية عالية.
وبعد هذا اليوم العصيب، هل استقرت الأمور؟ يبدو أن بيتكوين، أكبر العملات المشفرة في العالم، حاولت استعادة توازنها يوم الثلاثاء، لكنها واصلت تكبد خسائر طفيفة، وإن كانت بوتيرة أهدأ بكثير من جنون الأمس. سجلت العملة تداولاتها الأخيرة عند حوالي 112,711.6 دولاراً، بانخفاض لا يتعدى 0.1% بحلول صباح الثلاثاء بتوقيت شرق الولايات المتحدة، لتظل محلقة بالقرب من أدنى مستوياتها في أسبوعين. هذا الاستقرار النسبي لا يعدو كونه هدوءاً يسبق العاصفة، أو ربما مجرد التقاط أنفاس.
لكن القصة لا تتوقف عند ديناميكيات السوق الداخلية وحدها. فالنظرة الأكبر للسوق تتجه نحو واشنطن، حيث ينتظر المستثمرون خطاب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الذي يُعقد عليه الأمل في تقديم إشارات واضحة بشأن مستقبل السياسة النقدية. ماذا سيقول باول بعد أن قام الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس الأسبوع الماضي؟ وهل ستشير “توقعات النقاط” (dot plot) إلى المزيد من الخفض هذا العام، أم أن نبرة الحذر ستستمر؟ المسؤولون في الفيدرالي، بصراحة كده، ما زالوا متحفظين، وبيقولوا إن التضخم لسه أعلى من المستهدف، وإن وتيرة التيسير النقدي دي هتعتمد بالكامل على البيانات الاقتصادية اللي جاية. يعني الموضوع مش مجرد تخمين، كله مبني على أرقام واقعية.
ومع كل هذا الترقب، هناك حدث آخر يلوح في الأفق ويحمل في طياته إمكانية إحداث المزيد من الاضطرابات: إنه “انتهاء صلاحية عقود الخيارات الضخمة” يوم الجمعة. بيانات شركة “ديربيت” المتخصصة تشير إلى أن أكثر من 23 مليار دولار من عقود خيارات بيتكوين وإيثر ستنتهي صلاحيتها، وهذا يعتبر من أضخم الأحداث من نوعها على الإطلاق. هل تخيلت يوماً أن هذا الكم الهائل من الرهانات قد يحدد مسار السوق بأكمله، أو على الأقل يحدث موجة هائلة من التقلبات؟ هذا هو بالضبط ما يترقبه المتعاملون بحبس أنفاسهم.
ولإضافة المزيد من التعقيد للوحة الاقتصادية الكبرى، يترقب المستثمرون بفارغ الصبر صدور بيانات “مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي” (PCE) يوم الجمعة. هذا المؤشر، يا جماعة، مش أي كلام، ده المقياس المفضل للفيدرالي لمتابعة التضخم، ويعتبر بوصلة تحدد اتجاه قراراتهم المستقبلية بشأن أسعار الفائدة وتأثيرها على الأسواق المالية العالمية.
وبعيداً عن صخب التداولات والقرارات النقدية، تظهر تطورات أخرى قد تلقي بظلالها على مستقبل الأصول الرقمية. فبكين، كما ذكرت وكالة “رويترز”، أرسلت رسائل حذر، وإن كانت غير رسمية، إلى بعض شركات الوساطة المالية التابعة لها في البر الرئيسي، تطالبها بوقف أنشطة “ترميز الأصول الواقعية” (RWA) في هونغ كونغ. عشان نفهم الموضوع ده كويس، لازم نعرف إن “ترميز الأصول الواقعية” يعني تحويل أصول تقليدية زي السندات أو العقارات إلى رموز رقمية على تقنية البلوك تشين. وهونغ كونغ كانت بتروج للقطاع ده بقوة، كجزء من خطتها عشان تبقى مركز عالمي للتمويل الرقمي، وده جذب شركات وساطة صينية كتير سعت لطرح منتجات جديدة ومبتكرة.
رسائل بكين دي بتعكس قلقها من التوسع السريع للمنتجات الرقمية دي خارج حدودها، وتهدف لضمان أن تكون منتجات الشركات مدعومة بأعمال حقيقية، وتحسين إدارة المخاطر. يعني بالمصري كده، الصين عايزة تتأكد إن “السبوبة” دي مش مجرد فقاعة، وإن ليها أساس متين يحمي المستثمرين ويحافظ على استقرار النظام المالي.
في النهاية، يبدو سوق العملات المشفرة، وتحديداً بيتكوين، وكأنه يقف على مفترق طرق. من جهة، هناك ديناميكيات داخلية عنيفة تتجسد في موجات التصفية الضخمة واحتمالية التأثر بانتهاء عقود الخيارات. ومن جهة أخرى، تؤثر عليه الرياح الاقتصادية الكلية القادمة من قرارات البنوك المركزية الكبرى، وتحديداً الاحتياطي الفيدرالي، والتي تحدد مسار السيولة العالمية. أضف إلى ذلك، الضوابط التنظيمية المتزايدة والغموض حول مستقبل الأصول الرمزية في مناطق حيوية مثل هونغ كونغ، لتدرك أن المشهد معقد للغاية، ومتشابك الخيوط.
هل سيتمكن هذا السوق الشاب من تجاوز هذه التحديات المتعددة؟ وهل سيجد المستثمرون الجدد طريقهم الآمن وسط هذه التقلبات؟ سؤال يطرح نفسه بقوة، ويجعل من كل يوم في عالم العملات المشفرة فصلاً جديداً في قصة مليئة بالمخاطر، ولكنها أيضاً لا تخلو من الفرص لمن يفهم قواعد اللعبة جيداً ويتحلى بالصبر والحذر. ففي هذا العالم الرقمي المتغير باستمرار، المعلومة والتحليل الدقيق هما درعك وسيفك.