في عالم الاقتصاد المتقلب، حيث تتراقص العملات على أنغام القرارات السياسية والبيانات الاقتصادية، يجد زوج اليورو/الدولار الأمريكي نفسه في قلب عاصفة من الترقب والتضارب. تخيل معي المشهد: صباح يوم ثلاثاء، بينما تتأهب الأسواق العالمية، استقر سعر هذا الزوج الحيوي عند مستوى 1.1800. هل هو الهدوء الذي يسبق عاصفة؟ أم هو إشارة على أن الأسواق بدأت تتكيف مع واقع جديد؟ الإجابة لا تزال معلقة، ولكن الثابت الوحيد هو أن المستثمرين يراقبون عن كثب كل إشارة، كل كلمة، وكل رقم.
هذا الاستقرار النسبي جاء ليضع حداً لتراجع شهدناه في الأيام القليلة الماضية، تراجع بدأ فعلياً عقب قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأخير بخفض أسعار الفائدة. وكأن السوق كان يقول: “خفضتوا الفائدة؟ حسناً، دعونا نرى.” لكن يبدو أن بعض المستثمرين رأوا في هذا التراجع فرصة لا تعوض، فانقضوا على الشراء فيما يعرف بـ”الشراء عند الانخفاض” (buying the dip)، في محاولة للاستفادة من الأسعار المتدنية. وهذا لم يكن ليحدث لولا تضارب التصريحات الصادرة عن كبار مسؤولي الفيدرالي، والتي ألقت بظلال من عدم اليقين على المشهد برمته.
الأسبوع الماضي، اتخذ البنك المركزي الأمريكي قراراً بخفض أسعار الفائدة بمقدار 0.25%، في خطوة كان لها وقعها على الأسواق. لكن ما تبع ذلك من تصريحات أربك الحسابات. يوم الإثنين، انقسمت آراء مسؤولي الفيدرالي بشكل واضح، وكأنهم يعزفون سمفونية غير متناغمة. على سبيل المثال، ستيفن ميران، الذي تولى منصبه حديثاً كعضو في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، دافع بقوة عن هذا الخفض، بل ودعا إلى المزيد منه! موضحاً أن السياسة النقدية الحالية “شديدة التقييد” وقد تهدد سوق العمل، وهذا كلام كبير بصراحة. الغريب إن ميران كان الوحيد الذي صوت لخفض أكبر (0.50%) في اجتماع الشهر الماضي، وها هو الآن يدعو لمزيد من الخفض في الاجتماعات القادمة، وهو ما يتوافق مع آراء الرئيس دونالد ترامب. تصريحات كهذه، خصوصاً من وجه جديد، تُعطي لمحة عن اتجاهات بعض المرشحين الجدد لقيادة البنك، خاصة مع اقتراب نهاية ولاية جيروم باول العام المقبل.
لكن ليست كل الأصوات في الفيدرالي تتفق مع ميران. على النقيض تماماً، حذرت بيث هاماك، وهي مسؤولة أخرى ذات ثقل، من أن المسؤولين يجب أن يضعوا التضخم في صدارة أولوياتهم. وأشارت إلى أن سوق العمل لا يزال قوياً، مستشهدة ببيانات تُظهر معدلات بطالة منخفضة وقلة في حالات التسريح. هاماك لم تكتفِ بذلك، بل لفتت الانتباه إلى أن معدل التضخم الرئيسي ظل فوق 2% على مدار السنوات الأربع الماضية، وأنه من المستبعد أن يعود إلى الهدف المحدد (2%) لمدة عامين آخرين على الأقل. وفي رأيها، فإن أي تخفيف إضافي للسياسة النقدية قد يؤدي إلى “سخونة مفرطة” في الاقتصاد، وكأنها تقول: “بلاش نلعب في النار، عشان منحرقش إيدينا”. هذا التباين في الرؤى يُظهر بجلاء حجم التحدي الذي يواجهه صناع القرار في محاولتهم تحقيق التوازن بين دعم النمو الاقتصادي والسيطرة على التضخم.
في خضم هذه التصريحات المتضاربة، شهد سعر صرف اليورو/الدولار الأمريكي تقلبات حادة. فبعد أن كان عند أعلى مستوى شهري له عند 1.1920، تراجع إلى أدنى مستوى عند 1.1725 مباشرة بعد قرار الفيدرالي، ثم ارتد ليستقر عند المستوى النفسي 1.1800. ومن الناحية الفنية، لا يزال الزوج فوق المتوسط المتحرك الأسي لـ 50 يوماً ومؤشر سحابة إيشيموكو، وهما مؤشران يُنظر إليهما عادة كعلامات على القوة. كما تحرك فوق خط الاتجاه الصاعد الذي يربط أدنى مستوياته منذ الخامس من أغسطس. ولكن الحذر واجب، فالزوج يبقى تحت الضغط طالما لم يخترق مستوى المقاومة المهم عند 1.1835، وهو أعلى مستوى سجله في يوليو من هذا العام. أي اختراق لهذا الخط نحو الأسفل قد يؤكد اتجاهاً هبوطياً جديداً، وهنا تبدأ الحكاية تصعب على المتداولين.
وماذا عن المستقبل القريب؟ ما هي المحركات التالية التي يجب أن نضعها في الحسبان؟ إن المحرك المهم التالي لزوج اليورو/الدولار الأمريكي سيكون المزيد من تصريحات مسؤولي الفيدرالي، مثل ميشيل بومان ورافائيل بوستيك، وقبلهم طبعاً جيروم باول، رئيس البنك، الذي غالباً ما تكون لكلماته وزنها وثقلها. بالإضافة إلى ذلك، ستُراقب الأسواق عن كثب بيانات مؤشرات مديري المشتريات (PMI) الرئيسية للقطاعين الصناعي والخدمي، سواء من الولايات المتحدة أو من منطقة اليورو. فهل ستؤكد هذه البيانات قوة الاقتصاد أم ستكشف عن بوادر ضعف؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر الجميع إجابته.
في ظل هذه الأجواء، ينقسم المحللون والمتداولون إلى معسكرين: فمنهم من يرى فرصاً للبيع، ويحدد جني الأرباح عند 1.1700 مع وقف الخسارة عند 1.1900، متوقعين هذا السيناريو في غضون يوم إلى يومين. بينما يرى آخرون فرصة للشراء، مع تحديد جني الأرباح عند 1.1900 ووقف الخسارة عند 1.1700. يعني، باختصار، كل واحد بيشوف السوق من زاويته، والكل بيحاول يلحق الموجة قبل ما تعدي.
في الختام، فإن المشهد الاقتصادي الحالي يطرح تحدياً حقيقياً أمام المستثمرين وصناع القرار على حد سواء. هل سيتغلب الفيدرالي على خلافاته الداخلية ويقدم رؤية واضحة للمستقبل؟ أم أننا سنبقى في دوامة من التضارب والترقب؟ تداعيات هذه القرارات لا تقتصر على شاشات التداول فحسب، بل تمتد لتؤثر على التضخم، ومعدلات الفائدة على القروض، وحتى على قيمة مدخراتنا اليومية. إنها قصة عالم متصل، حيث قرارٌ في واشنطن يمكن أن يغير مسار حياة شخص في القاهرة أو باريس. فهل نحن مستعدون لمواصلة الرحلة في هذه المياه الاقتصادية الهائجة؟