كانت الأجواء تكتنفها آمال عريضة يوم الثلاثاء الماضي، فبعد شهور طويلة من الصامت النفطي، بدا أن أنبوب كركوك-جيهان الحيوي سيستعيد نبضه، مبشرًا باستئناف تصدير مئات الآلاف من براميل النفط من إقليم كردستان العراق إلى الأسواق العالمية. لكن، للأسف، عادت الأمور لتعقيداتها المعهودة، وتوقف اتفاق استئناف صادرات النفط مرة أخرى، ليُلقي بظلاله على مساعي بغداد وأربيل لطي صفحة الخلافات الاقتصادية.
فقد كان من المفترض أن يُصادق مجلس الوزراء العراقي على الاتفاق الذي توصلت إليه الحكومة الاتحادية مع حكومة إقليم كردستان والشركات المنتجة للنفط، والذي كان سيسمح بتدفق 230 ألف برميل يومياً من الخام، متجهة شمالاً عبر تركيا. ووفقاً لمسؤول نفطي مطلع، كانت التوقعات تشير إلى أن النفط سيبدأ بالضخ خلال 48 ساعة فقط من المصادقة. لكن ما الذي حدث تحديدًا ليوقف هذه الآلة الضخمة قبل أن تدور عجلاتها؟
السبب، بكل بساطة، يعود إلى جيب الشركات. شركتا “دي إن أو” النرويجية و”جينيل للطاقة”، وهما من أكبر المنتجين في الإقليم، لم توقعا على الاتفاق. لماذا؟ لأنهما تطالبان بضمانات واضحة وصريحة لسداد مستحقاتهما المتأخرة، والتي تراكمت لتصل إلى مليار دولار تقريباً، حصة “دي إن أو” منها وحدها تبلغ حوالي 300 مليون دولار. يعني، زي ما بنقول كده بالبلدي: “هما مش هيشتغلوا ببلاش”. هذه المستحقات هي ديون متراكمة على إقليم كردستان للشركات المنتجة خلال الفترة من سبتمبر (أيلول) 2022 وحتى مارس (آذار) 2023.
لا يمكن فهم المشهد الراهن دون العودة قليلاً إلى الوراء، تحديداً إلى مارس 2023، عندما توقفت صادرات النفط من الإقليم بشكل كامل. حينها، حكمت محكمة تحكيم تابعة لغرفة التجارة الدولية بضرورة دفع تركيا 1.5 مليار دولار تعويضاً للعراق، بسبب تصدير النفط من كردستان دون موافقة بغداد بين عامي 2014 و2018. ورغم أن تركيا تطعن على هذا الحكم، إلا أنها أبدت استعدادها لإعادة تشغيل خط الأنابيب. لكن الخلافات المزمنة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، بالإضافة إلى شروط العقود والمتأخرات مع الشركات الأجنبية، هي التي حالت دون تحقيق ذلك حتى الآن. كأن كل طرف ينتظر الآخر ليبدأ، والأرض في المنتصف ثابتة لا تتحرك.
وقد اقترحت شركة “دي إن أو” ما وصفته بـ”إصلاحات سهلة يمكن الاتفاق عليها سريعاً”، دون الكشف عن تفاصيلها. بينما أبدت “جينيل للطاقة” استعدادها لقبول الخطة قيد المناقشة مع بغداد وأربيل، بشرط إدخال “تعديلات مباشرة على البنود المقترحة حالياً، وخطة سداد المستحقات المتأخرة، لجعل شروط التصدير مقبولة للشركة”. يعني عايزين ضمانات أكتر، ودي مسألة أساسية بالنسبة لهم عشان يستأنفوا الشغل.
الاتفاق الجديد، الذي كان يُنتظر المصادقة عليه، يحدد بنوداً جديدة لتنظيم عملية التصدير. فهو يلزم حكومة إقليم كردستان بتسليم ما لا يقل عن 230 ألف برميل يومياً إلى شركة تسويق النفط العراقية (سومو)، مع الاحتفاظ بحوالي 50 ألف برميل يومياً للاستهلاك المحلي في الإقليم. وسيتم إدارة المبيعات من ميناء جيهان التركي بواسطة شركة مستقلة، على أن تستخدم الأسعار الرسمية لشركة “سومو”. والأهم، سيتم تحويل 16 دولاراً عن كل برميل يُباع إلى حساب ضمان خاص، يتم توزيعه على المنتجين حسب حصصهم، بينما تذهب باقي الإيرادات إلى “سومو”.
الخطة تبدو منظمة على الورق، أليس كذلك؟ لكن هنا تكمن العقدة الكبرى: مسودة الخطة لم تذكر شيئاً عن كيفية أو موعد تسليم الشركات لمستحقاتها المتأخرة التي تتجا المليار دولار. وهذه نقطة جوهرية بالنسبة للشركات، التي تأمل أيضاً في الحصول على حصة أكبر من إيرادات الإنتاج في المستقبل، خاصة وأن شركة “دي إن أو” وحدها كانت تنتج 78400 برميل يومياً من حقلي طاوكي وفيشخابور في النصف الأول من هذا العام، وكانت تُباع للسوق المحلية فقط.
هذا الجمود لا يمثل مجرد خسارة مالية عابرة، بل هو مؤشر على هشاشة الثقة بين الأطراف الفاعلة في قطاع النفط العراقي. في وقت تسعى فيه دول تحالف “أوبك بلس” لزيادة حصتها السوقية بضخ المزيد من النفط، يظل العراق، ثاني أكبر منتج في أوبك، يعاني من تعثر جزء حيوي من صادراته. هذا الوضع يؤثر ليس فقط على إيرادات الدولة والشركات، بل على استقرار إقليم كردستان نفسه، والذي يعتمد بشكل كبير على هذه العائدات. فهل يمكن لدولة غنية بالنفط أن تحقق الازدهار بينما تظل ملفات بسيطة كـ”سداد المستحقات” تعرقل تقدمها؟ وهل نشهد قريباً نهاية لهذه الدوامة، أم أننا سنظل ننتظر “الجمعة الجاية” ليعود النفط للتدفق؟ هذا هو السؤال الذي يتردد صداه في أروقة السياسة والاقتصاد العراقية.