في عالم المال الرقمي المتسارع، حيث تتقلب الثروات بلمح البصر وتتغير الموازين في رمشة عين، استيقظ المستثمرون يوم الثلاثاء الماضي، الثالث والعشرين من سبتمبر لعام 2025، على مشهد مألوف لكنه لم يفقد قدرته على إثارة القلق: موجة حمراء اجتاحت شاشات التداول، لتحمل معها تراجعات جماعية كبرى في أسعار العملات المشفرة، لليوم الثاني على التوالي. فهل كانت هذه مجرد هزة عابرة في طريق الصعود، أم أنها إشارة تحذيرية لمرحلة جديدة من عدم اليقين؟
لم يكن الأمر مجرد انخفاض عرضي يطال عملة أو اثنتين، بل كان تراجعاً واسع النطاق شمل كافة العملات الرقمية الرئيسية بدون استثناء، وبنسب متفاوتة، في ظاهرة تعكس حالة من الضغط البيعي المكثف. تخيل الوضع كده: يوم ورا يوم والمؤشرات كلها نازلة، تحس إن السوق كله بيقولك “استنّى، فيه حاجة مش مظبوطة”. هذا الهبوط، الذي بدأ في الجلسات الآسيوية، كان كفيلاً بإعادة تسليط الضوء على الطبيعة المتذبذبة لهذه الأصول الرقمية.
في صدارة هذا الهبوط، جاءت عملة البيتكوين (Bitcoin)، ملكة العملات المشفرة وأكثرها تداولاً وقيمة، لتسجل انخفاضاً قوياً بلغت نسبته 1.78% في جلسة التداولات اليومية، مستقرة عند مستوى 114,268 دولاراً أمريكياً تقريباً. هذا التراجع في سعر البيتكوين، الذي غالباً ما يُنظر إليه كمقياس لصحة السوق بأكمله، لم يكن معزولاً؛ فقد ترافق مع أداء متدهور في بورصة شنغهاي والأسواق الآسيوية بشكل عام، وكأنها أولى قطع الدومينو التي سقطت، ممهدة الطريق لتراجعات أعمق.
ولم تكن عملة الإيثيريوم (Ethereum)، ثاني أكبر عملة مشفرة من حيث القيمة السوقية والعمود الفقري للكثير من تطبيقات التمويل اللامركزي (DeFi)، أفضل حالاً على الإطلاق. فقد هوت قيمتها بأكثر من 2.38%، لتصل إلى مستوى 4,190 دولاراً، لتضرب بذلك إحدى أهم ركائز السوق الرقمي. هذه الانخفاضات الكبرى في العملتين الرائدتين غالباً ما تبعث برسائل سلبية للمستثمرين الصغار والكبار على حد سواء، وتدفعهم نحو الحذر.
وامتدت عدوى الهبوط لتطال مجموعة واسعة من العملات البديلة (Altcoins) التي يراهن عليها الكثيرون كبدائل للبيتكوين والإيثيريوم. على سبيل المثال، شهدت عملة كاردانو (Cardano) هبوطاً ملموساً بنسبة 3.8% لتقترب من 0.8230 دولار. أما سولانا (Solana)، التي اكتسبت شعبية هائلة مؤخراً، فقد سجلت تراجعاً أكثر حدة وصل إلى 5.6% لتستقر عند 216.904 دولاراً. وحتى دوجكوين (Dogecoin)، العملة التي غالباً ما تثير الجدل وتعتمد بشكل كبير على دعم المشاهير، لم تنجُ من الهبوط، حيث انخفضت بنسبة 3.3% لتصل إلى مستويات 0.2407 دولار. وعانت عملتا ريبل (Ripple) ولايتكوين (Litecoin) أيضاً من خسائر، حيث انخفضتا بنسبة 1.68% و4.4% على التوالي، لتصلا إلى 2.2860 دولار و106.27 دولاراً. بصراحة كده، المنظر العام كان محبط لأي حد حاطط فلوسه هناك ومتوقع أرباح سريعة.
ولكن ما الذي يقف بالضبط وراء هذا التراجع الجماعي والواسع النطاق؟ التحليلات الأولية تشير إلى عدة عوامل متضافرة. أولاً، عمليات البيع الكبيرة التي شهدتها الأسواق، والتي قد تعكس إما جني للأرباح من قبل المستثمرين بعد فترات صعود سابقة، أو تصفية للمراكز في ظل حالة من القلق والترقب لأحداث اقتصادية عالمية. ثانياً، ضعف التداولات في الجلسات الآسيوية، وهو ما غالباً ما يعكس انخفاضاً في حجم الطلب أو سيولة أقل في تلك الأسواق، مما يجعلها أكثر عرضة للتقلبات.
لكن الصورة لم تكتمل بعد، فعلى الجانب الآخر من العالم، تتجه عيون المستثمرين والمحللين على حد سواء نحو حدث اقتصادي بالغ الأهمية: اجتماع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. هناك ترقب واسع لنتائج هذا الاجتماع، وتحديداً ما قد يترتب عليه من قرارات بشأن أسعار الفائدة. التوقعات السائدة في السوق تشير إلى احتمال خفض الفائدة، وهو ما يمكن أن يؤثر بشكل كبير على جاذبية الأصول ذات المخاطر العالية كالعملات المشفرة. سؤال طبيعي يتبادر للذهن: هل هذه التراجعات التي نشهدها مجرد تمهيد أو إعادة تموضع قبيل هذه القرارات المهمة؟ وهل ستشهد حركة العملات المشفرة تغيراً جذرياً مع عودة التداولات العالمية في أسواق لندن وأمريكا، في ظل هذه التوقعات؟
لم يكن مفاجئاً، في ضوء كل هذه المعطيات، أن تتراجع القيمة السوقية المجمعة لجميع العملات المشفرة بشكل ملحوظ. فوفقاً لبيانات “كوين ماركت كاب” (CoinMarketCap)، المصدر الموثوق لبيانات السوق الرقمية، انخفضت القيمة الإجمالية للسوق إلى 3.80 تريليونات دولار. هذا الرقم، رغم ضخامته المطلقة، يعكس كمية هائلة من الثروة الرقمية التي تبخرت في ساعات قليلة، ما يثير تساؤلات جدية حول استدامة هذا القطاع ومدى مناعته ضد الصدمات الاقتصادية والتحولات في مزاج المستثمرين.
إن ما حدث يوم الثلاثاء، وما سبقه بيوم، ليس مجرد أرقام تتغير على الشاشات؛ إنه تذكير صارخ بالطبيعة المتقلبة وغير المتوقعة لسوق العملات المشفرة. فهل هي مجرد هزة عابرة في مسيرة صعودها الطويلة، كعادة هذا السوق الذي يشتهر بـ “التقلبات الحادة”؟ أم أنها إشارة إلى أن رياح التغيير الاقتصادي العالمي قد بدأت تهب بقوة على هذا القطاع، مما قد يفرض تحديات جديدة على نموذج عمله ومستقبله؟ الأيام القادمة، مع فتح الأسواق الغربية وتحديد مصير الفائدة الأمريكية، ستحمل بلا شك إجابات أوضح لهذه التساؤلات. لكن درس اليوم واضح: في عالم العملات الرقمية، لا يوجد استقرار دائم، وكل صعود يتبعه ترقب، وكل هبوط يثير ألف سؤال. فمن يجرؤ على المغامرة في هذا السوق، يجب أن يكون مستعداً لتقلباته التي لا ترحم.