عندما نتحدث عن الذهب، لا نتحدث فقط عن معدن لامع يجذب الأنظار ببريقه؛ بل عن تاريخ طويل من الثقة، وملاذ آمن في أوقات الأزمات، ومرآة تعكس أحياناً أدق تفاصيل المشهد الاقتصادي العالمي. واليوم، هذه المرآة تشع بلمعان غير مسبوق، مع إشارات قوية إلى أن ملك المعادن يقف على أعتاب فصل جديد من فصوله التاريخية. فهل نحن على وشك رؤية الذهب يحطم كل الحواجز ويحلق نحو أرقام لم نعتد عليها من قبل؟
التقارير الاقتصادية العالمية، وتحديداً من مؤسسات عريقة مثل “جولد بيليون”، بدأت تتداول سيناريوهات قد تبدو للبعض أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع: سعر الأونصة الواحدة من الذهب قد يتجاوز حاجز الـ 4000 دولار أمريكي عالمياً. يا جماعة الخير، الرقم ده مش هزار! إنه يتحدث عن قفزة تاريخية ممكن أن تعيد تعريف علاقتنا بالمعدن الأصفر هذا تماماً. فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه التوقعات الجريئة، وهل تستند إلى أسس صلبة أم مجرد تمنيات في عالم مليء بالضبابية؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نتوجه بأنظارنا إلى واشنطن، وتحديداً إلى مقر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ببساطة، كل اللي بيحصل ده مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة النقدية التي يعتزم الفيدرالي اتباعها. الأسواق العالمية، بذكائها المعهود، بدأت تسعر اتجاه البنك المركزي نحو تيسير سياسته النقدية وتقليص تكلفة الاقتراض عبر خفض أسعار الفائدة خلال الفترة المتبقية من العام الجاري. وهذا، بطبيعة الحال، يصب في صالح الذهب ويدفعه للصعود، فمتى تتدنى أسعار الفائدة، يصبح الاحتفاظ بالذهب، الذي لا يدر عائداً، أكثر جاذبية مقارنة بالاستثمارات الأخرى.
فعلياً، لم تكن هذه مجرد تكهنات عائمة في الأثير. الأسبوع الماضي، أكد الفيدرالي هذا التوجه بخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، في خطوة كانت متوقعة على نطاق واسع من قبل المحللين والخبراء. لكنها اكتسبت زخماً إعلامياً كبيراً ومضاعفاً بعدما أشار البنك إلى تزايد المخاطر في سوق العمل الأمريكي. هذه الإشارة كانت بمثابة الضوء الأخضر للمستثمرين بأن دورة التيسير النقدي مستمرة وأن هناك المزيد في جعبة الفيدرالي. مش بس كده، الأسواق بتترقب حالياً خفضين إضافيين للفائدة في اجتماعي أكتوبر وديسمبر، وكل واحد منهم ممكن يكون بـ 25 نقطة أساس برضه. يعني بنتكلم عن احتمالية عالية جداً لحدوث هذه التخفيضات، بلغت 93% لاجتماع أكتوبر و81% لاجتماع ديسمبر، وهذا يعزز بشكل كبير فرص استمرار صعود أسعار الذهب نحو قمم جديدة.
لكن هل الفائدة الأمريكية هي المحرك الوحيد لهذا الزخم التصاعدي؟ أبداً. هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية تدعم هذا الصعود الصاروخي. البنوك المركزية حول العالم، وكذلك صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب، رفعت حيازاتها من المعدن الأصفر بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة. هي بصراحة كده، بتشوف الذهب ملاذاً آمناً يحمي من تقلبات الأسواق والتضخم، فبتلجأ له كضمانة ضد أي مفاجآت اقتصادية أو جيوسياسية. وهذا الطلب المتزايد من “اللاعبين الكبار” في السوق يساهم في دفع الأسعار نحو الأعلى بلا هوادة، فكل عملية شراء كبيرة تضيف ثقلاً إيجابياً لمسار الذهب.
أما عن الأنظار، فهي شاخصة نحو مجموعة من البيانات الاقتصادية الأمريكية بالغة الأهمية. على رأس هذه البيانات يأتي مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية (PCE)، الذي يعتبر المقياس المفضل لدى الفيدرالي لتتبع التضخم، والمقرر صدوره يوم الجمعة. هذا المؤشر يمثل بوصلة رئيسية للبنك المركزي في تحديد خطوته القادمة بخصوص الفائدة. بالإضافة إلى ذلك، ينتظر المستثمرون سلسلة من خطابات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي، بما في ذلك كلمة رئيس البنك، جيروم باول، المقرر لها الثلاثاء المقبل. كل كلمة، وكل رقم، يحمل في طياته إشارات قد تعمق أو تغير من مسار الذهب، مما يجعل هذه الأحداث محط ترقب شديد.
ففي عالم تتزايد فيه حالة عدم اليقين، وتتفاقم فيه الضغوط التضخمية، ويشهد تباطؤاً في نمو الاقتصاد العالمي، يظل الذهب صامداً كواحد من أهم الملاذات الآمنة. إنه ليس مجرد استثمار تقليدي، بل هو ضمانة ضد المجهول. فكلما ازدادت المخاوف الاقتصادية أو الجيوسياسية، ازداد بريق الذهب، وازدادت معه ثقة المستثمرين في قدرته على الحفاظ على القيمة في أوقات الاضطراب. إنه أشبه بصندوق الطوارئ الذي يلجأ إليه الجميع عندما تهب العواصف.
إذن، هل نحن فعلاً في طريقنا لمشاهدة الذهب وهو يرسم مستويات تاريخية جديدة تتخطى كل التوقعات؟ المؤشرات كلها تصب في هذا الاتجاه، فإذا استمرت البيانات الاقتصادية في دعم نهج التيسير النقدي من قبل الفيدرالي، فإن سوق الذهب سيحصل على دفعة إضافية قوية قد تدفعه لتسجيل أرقام غير مسبوقة في الأجل القريب. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعاً، سواء كنا مستثمرين كباراً أو مجرد أفراد نراقب أسعار السوق: ما الذي يعنيه لنا هذا الصعود التاريخي؟ هل يجب أن نرى فيه فرصة للحفاظ على قيمة مدخراتنا في وجه التضخم المتزايد، أم مجرد تذكير بأن عالمنا الاقتصادي يتغير بوتيرة متسارعة، وأن الثوابت قد لا تبقى ثابتة إلى الأبد؟ في النهاية، يبدو أن القصة لم تنتهِ بعد، وأن ملك المعادن لا يزال يخبئ في جعبته الكثير من المفاجآت في الفصول القادمة.