أحيانًا، في خضم دوامة الأخبار المتلاحقة عن الحروب والصراعات، نغفل عن أبعادها الخفية، تلك التي لا تُسفك فيها دماء، لكنها تستنزف العروق المالية للدول وتترك ندوبًا عميقة في جسد اقتصاداتها. فهل فكرت يومًا، ما هو الثمن الحقيقي للحرب، بخلاف أرواح البشر؟ في إسرائيل، بدأت الإجابة تتضح بشكل مؤلم، ومعها تتزايد التحذيرات من فاتورة ضخمة قد تتجاوز مجرد أرقام الميزانيات.

فقد أطل مسؤول حكومي إسرائيلي رفيع، فضل عدم الكشف عن هويته، ليطلق تحذيراً شديد اللهجة يتردد صداه في الأوساط الاقتصادية: استمرار وتوسع الحرب على قطاع غزة قد يكبّد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر إضافية فلكية تتجاوز الـ 7.5 مليار دولار أمريكي بحلول نهاية العام الجاري. رقم ضخم بكل المقاييس، صح؟ يعني ده مش مبلغ بسيط أبدًا، ده رقم ممكن يغير شكل ميزانيات قطاعات كتير. هذا المبلغ ليس مجرد رقم على ورقة؛ بل يمثل ما يزيد عن واحد بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. تخيل يا صاحبي، ده ييجي فوق فاتورة كانت أصلاً مفتوحة ومكلفة للغاية، وكأنها حمل جديد يثقل كاهل دولة تواجه تحديات أمنية واقتصادية جمة.

وبحسب ما نقلته وكالة “بلومبرج” المرموقة عن المصدر ذاته، تُضاف هذه التكاليف الباهظة إلى نفقات عسكرية سابقة بلغت نحو 204 مليارات شيكل (ما يعادل حوالي 55 مليار دولار أمريكي بأسعار الصرف الحالية) على مدار قرابة عامين من هذا الصراع المرير. يعني بالبلدي كده، الفاتورة بتزيد والعداد شغال ومش بيقف، وكل يوم بيمر والوضع زي ما هو، كل دولار بيطير من خزانة الدولة. الجزء الأكبر من هذا الإنفاق الطائل يتوجه، كما أوضح المسؤول، لتغطية رواتب جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم للخدمة، وشراء الذخائر اللازمة لآلة الحرب، وتحديث وتعزيز أنظمة اعتراض الصواريخ التي باتت خط الدفاع الأول عن المدن الإسرائيلية، وتحميها من وابل القذائف المتواصل.

تصور معي، عشرات الآلاف من الإسرائيليين تركوا حياتهم المدنية، وظائفهم، وعائلاتهم، ليلتحقوا بساحات القتال منذ اندلاع الشرارة الأولى للحرب. وهؤلاء الجنود، وهم يحملون على عاتقهم عبء الدفاع، يتقاضى الجندي في الاحتياط منهم راتبًا شهريًا يصل في المتوسط إلى 36 ألف شيكل. هذا المبلغ، بالمناسبة، يفوق متوسط الأجور في البلاد بنحو 50%، وتتحمل الدولة هذه الرواتب لتعادل ما كانوا يتقاضونه في وظائفهم الأصلية، لضمان استقرارهم المعيشي هم وعائلاتهم أثناء فترة خدمتهم. يعني، الدولة بتدفع تمن كل ساعة بيقضوها بعيد عن بيوتهم ومصادر رزقهم الطبيعية، وده طبعًا رقم مش قليل لما يتضرب في عشرات الآلاف. هذا الإنفاق الضخم على الرواتب وحده يشكل ضغطًا هائلاً على الميزانية العامة، ويزيد من التحديات المالية التي تواجهها الحكومة.

لكن القصة لا تتوقف عند حدود الإنفاق العسكري المباشر. بلومبرج أشارت إلى أن تداعيات هذه الحرب امتدت لتشمل جبهات أخرى في المنطقة، مما ضاعف من حجم النفقات العسكرية وزاد الأعباء على كاهل الاقتصاد الإسرائيلي بشكل غير متوقع. هل يمكن أن تكون هناك حرب من غير تداعيات غير متوقعة؟ أكيد لا، خصوصًا في منطقة زي دي، أي شرارة بتولع الدنيا كلها. كما أن التخطيط الإسرائيلي لعمليات عسكرية محتملة في مدينة رفح بغزة، يواجه معارضة دولية متصاعدة وتحذيرات جادة من تفاقم الكارثة الإنسانية هناك، وهو ما قد يزيد من عزلة إسرائيل على الساحة العالمية، ويضيف ضغطًا سياسيًا واقتصاديًا غير محسوب، ويجعل من الصعب على الدولة الحفاظ على شبكة تحالفاتها الدولية.

في ظل هذه الخسائر المتلاحقة والضغوط المستمرة، اضطرت وزارة المالية الإسرائيلية مؤخرًا إلى تخفيض توقعاتها لنمو الاقتصاد في عام 2025 إلى 3.1%، بعد أن كانت تتطلع إلى أرقام أعلى من ذلك بكثير. وحتى البنك المركزي الإسرائيلي، بصفته الضابط الأكبر لإيقاع الاقتصاد ومستقبله، خفض تقديراته للنمو لذات العام من 3.5% إلى 3.3%. هذه الأرقام، وإن بدت صغيرة للوهلة الأولى في عالم الاقتصاد الكلي، لكنها تحمل في طياتها مؤشرات ليست بالهينة عن تباطؤ محتمل، وربما ركود اقتصادي يلوح في الأفق إذا استمرت الأوضاع على حالها ولم يتم التوصل إلى حلول مستدامة. إن تراجع الثقة بالاقتصاد ليس مجرد شعور، بل ينعكس مباشرة على الاستثمارات والتوظيف ومستوى المعيشة بشكل عام.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ليس فقط عن مدى قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تحمل هذه الضربات المتتالية، بل عن الثمن البشري والاجتماعي الذي لا يمكن تقديره بالأرقام. فكل دولار ينفق على الحرب هو دولار لم ينفق على التعليم، أو الصحة، أو البنية التحتية، أو تحسين جودة حياة المواطنين العاديين. والناس هناك، زينا بالظبط، بيتمنوا الاستقرار والسلام، وعايزين يعيشوا حياتهم الطبيعية بدون قلق أو خوف. إن الرغبة في الأمن والحماية، وإن كانت مشروعة وضرورية لأي شعب، تأتي دائمًا بتكاليف باهظة، ليست مادية فحسب، بل تمتد لتشمل استقرار المنطقة بأسرها ومستقبل الأجيال القادمة. فهل تستطيع أي دولة أن تدفع ثمنًا كهذا إلى الأبد دون أن تتآكل من الداخل، وتتأثر نسيجها المجتمعي والاقتصادي؟ إنه سؤال تتصارع الإجابة عليه في دهاليز السياسة والاقتصاد، ويظل المواطن العادي هو من يدفع الفاتورة الأكبر في النهاية، سواء بدمه أو بلقمة عيشه، وبمستقبل أطفاله.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.