كم من الأسر المصرية عاشت عقودًا طويلة تحت وطأة “الإيجار القديم”؟ كم من الملاك أحسوا بالظلم جراء تجميد قيمة ممتلكاتهم لعشرات السنين، وفي المقابل، كم من المستأجرين عاشوا هاجس عدم الاستقرار، يخشون المصير المجهول إذا ما انتهت عقودهم أو تغيرت ظروفهم؟ هذه ليست مجرد أرقام أو قصص فردية، بل هي معضلة اجتماعية واقتصادية متشعبة، ظلت أشبه بقنبلة موقوتة، تتنقل بين أجيال، تزرع بذور التوتر في قلب النسيج المجتمعي. لكن يبدو أن هذه المعضلة على وشك أن تُطوى صفحتها، أو على الأقل، أن تدخل مرحلة جديدة بالكامل.

في خطوة تاريخية طال انتظارها، وبعد جدل امتد لعقود، أعلنت رئاسة مجلس الوزراء عن تطبيق نظام جديد وواعد: “الإيجار التمليكي”. هذا النظام، الذي يدخل حيز التنفيذ في الأول من أكتوبر عام 2025، ليس مجرد تعديل عادي، بل هو نقلة نوعية توصف بأنها الأبرز في تاريخ العلاقة بين المالك والمستأجر في مصر منذ إقرار قوانين الإيجار القديمة. الهدف واضح وصريح: إعادة تنظيم السوق العقارية، ووضع حد لإحدى أعقد الأزمات التي أرقت ملايين المواطنين.

لماذا الآن تحديدًا؟ ولماذا نظام الإيجار التمليكي؟ الإجابة تكمن في جوهر الأزمة ذاتها. عقود الإيجار القديمة كانت تجمّد القيمة الإيجارية عند مستوى زهيد لا يتناسب إطلاقًا مع القيمة السوقية الحالية، مما أدى إلى حرمان الملاك من عائد عادل على استثماراتهم، وفي الوقت نفسه، خلق طبقة من المستأجرين الذين يعتمدون على هذه العقود كضمان للسكن أو النشاط التجاري بأسعار رمزية. هذا الوضع، بصراحة، كان عامل صداع كبير في المجتمع، وأحد أهم تحديات العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي. ومن هنا، جاءت رؤية الحكومة لإرساء نوع من التوازن، يضمن حقوق الطرفين ويفتح آفاقًا جديدة للجميع.

هذه الخطوة ليست مجرد قرار إداري عابر، بل هي ترجمة عملية لمادة حيوية في القانون رقم 164 لسنة 2025. فقد نصت المادة الثامنة منه بوضوح على ضرورة توفير وحدات بديلة للمستأجرين، سواء بنظام الإيجار العادي أو بنظام الإيجار التمليكي، وذلك قبل انتهاء المدة المقررة لإنهاء العقود القديمة. وهذا يعكس التزام الدولة بإعادة تشكيل العلاقة الإيجارية على أسس أكثر إنصافًا، دون الإضرار بالمستأجرين الذين باتوا جزءًا لا يتجزأ من هذه المنظومة. لكن ما هو الإيجار التمليكي بالضبط؟ ببساطة، هو نظام يتيح للمستفيد استغلال الوحدة مقابل دفع إيجار شهري محدد، ومع مرور فترة زمنية متفق عليها، تنتقل ملكية الوحدة إليه. يعني مش مجرد بتدفع إيجار وخلاص، لأ، في نهاية المطاف الشقة أو المحل ممكن يكون ملكك! وهذا يوفر استقرارًا طويل الأمد للعائلات والأنشطة التجارية ويخفف من شبح الإخلاء الفوري.

لكن يا ترى، مين اللي هيستفيد من النظام الجديد ده؟ الحكومة وضعت مجموعة من الشروط والضوابط لضمان أن يصل هذا الدعم لمستحقيه الفعليين، مش مجرد فرصة لأي حد. أولًا، لازم يكون المستأجر شخصًا طبيعيًا، يعني مش شركة أو كيان اعتباري، ويشغل وحدة بموجب عقود قوانين الإيجار القديمة المعروفة (القانونين 49 لسنة 1977 أو 136 لسنة 1981).

ثانيًا، وأعتقد إن ده مهم جدًا، لازم المستأجر يكون مقيمًا بالفعل داخل الوحدة المؤجرة، أو يمارس نشاطه التجاري فيها. يعني ما ينفعش تكون الشقة أو المحل مقفولين بقالهم سنين من غير مبرر وييجي صاحب العقد القديم يطالب بوحدة بديلة. ثالثًا، لا يجب أن يمتلك المستفيد وحدة أخرى صالحة للسكن أو لممارسة النشاط التجاري. الهدف هنا هو توفير البديل لمن يحتاج إليه بالفعل، وليس لمن يسعى لتوسيع ممتلكاته على حساب الآخرين. ورابعًا، يجب أن تكون الوحدة البديلة في نفس المحافظة التي تقع بها الوحدة القديمة، وأن تخدم نفس الغرض (سكنية بدل سكنية، وتجارية بدل تجارية). بالإضافة إلى ذلك، ألزمت الحكومة المستفيدين بتوقيع إقرار رسمي موثق بالشهر العقاري يضمن إخلاء الوحدة القديمة فور استلام البديلة، عشان نضمن العدل، وما حدش ياخد فرصتين.

أما عن آلية التقديم، فالحكومة سهلت الدنيا كتير عشان الكل يقدر يقدم. سيتم الأمر عبر منصة إلكترونية موحدة، حيث يمكن للمواطن إنشاء حساب خاص وتحميل المستندات المطلوبة بكل سهولة، زي عقد الإيجار القديم، وإثبات الدخل، وشهادات الحالة الاجتماعية، إضافة إلى المستندات الخاصة بذوي الإعاقة إن وجدت. ولم تنس الدولة كبار السن أو الفئات اللي ممكن ما يكونش عندها سهولة في التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، فقد أتاحت لهم التقديم الورقي عبر مكاتب البريد المنتشرة في كل المحافظات. فترة التقديم ستستمر لمدة ثلاثة أشهر فقط من فتح باب الحجز، وهيكون فيه فرصة لتقديم التظلمات في حال رفض الطلب، ويتم الفصل فيها خلال شهر واحد كحد أقصى.

صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري سيتولى مهمة كبرى في هذه المنظومة. دوره لن يقتصر فقط على مراجعة الطلبات والتحقق من استيفاء الشروط، بل سيمتد ليشمل متابعة مراحل التنفيذ حتى تسليم الوحدات. هذا الدور الرقابي حيوي لضمان الشفافية، وللتأكد من أن الدعم والوحدات تصل إلى الفئات التي تستحقها فعلاً، وبشكل يقطع الطريق أمام أي محاولات للاستفادة غير المشروعة.

يرى خبراء القطاع العقاري أن تطبيق نظام الإيجار التمليكي يمثل بالفعل نقلة نوعية في السوق المصرية. فمن جانب المستأجرين، يتيح النظام فرصة التملك التدريجي للوحدة دون الحاجة لدفع مبالغ ضخمة للشراء المباشر، وهذا حلم لكثيرين. ومن جانب الملاك، يسهم في حماية حقوقهم بإنهاء عقود طال أمدها دون عائد عادل، مما يعيد الثقة للسوق العقاري ويشجع على الاستثمار فيه. وفي الوقت نفسه، يحافظ النظام على الاستقرار الاجتماعي عبر توفير بدائل عملية للمستأجرين، فلا يجدون أنفسهم في الشارع فجأة. يظل نجاح هذه التجربة مرهونًا بالتنفيذ الصارم للضوابط، وتعاون المواطنين مع الإجراءات الحكومية، لضمان تحقيق الهدف الأسمى: إقامة علاقة متوازنة ومستقرة بين جميع أطراف المنظومة العقارية في مصر.

هل نحن على أعتاب فصل جديد من الاستقرار العقاري والاجتماعي؟ المؤشرات الأولية توحي بذلك. إنها ليست مجرد خطوة قانونية، بل هي رؤية تتطلع نحو مستقبل تسود فيه العدالة وينعم فيه الجميع بالاستقرار، سواء كانوا ملاكًا أو مستأجرين. هذا هو التحدي، وهذا هو الأمل.

Leave a Comment

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.