كأننا نقف على أعتاب مسرح كبير، ستارة الترقب مرفوعة، والجمهور يتابع بصمت كل حركة على الخشبة. هذا هو المشهد الاقتصادي العالمي حالياً، حيث تتجه الأنظار كلها نحو واشنطن، وتحديداً إلى مقر البنك المركزي الأميركي. الدولار، سيد الموقف في بورصات العالم، بدأ الأسبوع الماضي وكأنه يلقي نظرة استكشافية، مرتفعاً بشكل طفيف، وكأنما يستعد لما هو قادم. فما القصة؟ وماذا ينتظر الأسواق من صانعي القرار هناك؟
الحديث كله يدور حول أسعار الفائدة الأميركية، تلك الأداة السحرية التي يمتلكها “الفيدرالي” والتي بإمكانها إما إنعاش الاقتصادات أو كبح جماحها. بعد أن استأنف البنك المركزي دورته التيسيرية الأسبوع الماضي، عادت حالة الترقب لتسيطر على المتعاملين. الكل ينتظر سلسلة من الخطابات المرتقبة التي سيلقيها مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي على مدار الأيام القادمة. وكأن كل كلمة ستقال، وكل إشارة ستُطلق، يمكن أن تغير مسار السوق بأكمله، أو على الأقل، تحدد اتجاه الدولار.
يقول المحللون إن الدولار يتحرك الآن بالقرب من مستوياته التي كانت سائدة قبل قرار “الفيدرالي” الأخير. وهذا في حد ذاته يعكس رسالة البنك المركزي التي وصلت للجميع: “نحن قلقون بشأن سوق العمل، وهذا سيكون دافعنا الرئيسي في صياغة سياستنا النقدية”. يعني باختصار، هما شايفين إن سوق الشغل محتاج شوية دعم عشان الدنيا تمشي. وإذا نظرنا إلى البيانات الاقتصادية الأميركية الأسبوع الماضي، نجد أن عدد الأميركيين المتقدمين بطلبات إعانة البطالة قد تراجع، وهذا قلب الموازين بعد القفزة التي شهدتها الأسابيع السابقة.
لكن ما الذي يُبقي المستثمرين في حالة ترقب وتأهب قصوى؟ الإجابة تأتي من بوب سافاج، رئيس استراتيجية الاقتصاد الكلي للأسواق في بنك BNY Mellon، الذي أوضح أن “غياب البيانات الاقتصادية المهمة حتى صدور مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي يوم الجمعة يترك المستثمرين في حالة استعداد لإعادة التفكير في مسار خفض الفائدة وخطط المرحلة المقبلة.” وفي هذا الفراغ المعلوماتي، تبرز أهمية خطابات مسؤولي “الفيدرالي”. تخيل معي، أكثر من 18 فعالية وكلمة مقررة! ده مش قليل أبداً! من بين هؤلاء المتحدثين، رئيس الفيدرالي جيروم باول نفسه، بالإضافة إلى بيث هاماك من الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، وألبرتو موسالم من الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، وهؤلاء الأخيرين تحديدًا معروفون بمواقفهم المتشددة قبل الاجتماع الأخير. كلامهم ممكن يغير حاجات كتير.
ولكن مهلاً، القصة لا تقتصر على هذه الخطابات فحسب. الأسبوع الماضي شهد حدثاً لافتاً أثار بعض التساؤلات. ستيفن ميران، العضو الجديد في مجلس المحافظين، دافع عن نفسه كصانع سياسات مستقل بعدما خالف التوجه العام ودعم خفضاً أكبر للفائدة بواقع 50 نقطة أساس. وقد تعهد بتقديم حجج مفصلة لموقفه في خطاب لاحق يوم الإثنين. وهنا يتساءل البعض: هل هذا تمرد على سياسة البنك أم موقف مبدئي؟ المحللون يرون في معارضة ميران الوحيدة خطوة محسوبة بعناية من بقية أعضاء لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة، وكأنها محاولة لإظهار الوحدة خلف باول وتعزيز استقلالية المؤسسة. يعني الناس اللي بتفهم قالت إن ده كان تصرف محسوب عشان يثبتوا إنهم مؤسسة مستقلة، وفي نفس الوقت كل واحد حر في رأيه.
على صعيد آخر، لا يمكن أن ننسى التصريحات السياسية التي تتدخل أحياناً في هذا المشهد الاقتصادي المعقد. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مثلاً، وجه انتقادات حادة لـ”الفيدرالي”، مطالباً البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة بوتيرة أكثر قوة. وكأنها دعوة مفتوحة للتدخل في قرارات يفترض أنها مستقلة فنياً.
الدولار، الذي تراجع قليلاً بعد تعافيه الأسبوع الماضي إثر إشارة “الفيدرالي” بعدم وجود عجلة لتيسير السياسة النقدية في الأشهر المقبلة، عاد ليرتفع بنسبة 0.05%، ليصل إلى 97.66 مقابل سلة من العملات الرئيسية. هذا الارتفاع الطفيف يعكس حالة الترقب الحالية، فماذا عن بقية العملات العالمية؟
اليورو استقر نسبيًا عند 1.1748 دولار، محافظًا على موقعه دون تغييرات جذرية. أما الكرونة السويدية فقد تراجعت بنسبة 0.10% لتسجل 9.4140 مقابل الدولار، وذلك قبيل اجتماع السياسة النقدية للبنك المركزي السويدي (ريكسبانك) يوم الثلاثاء. جيادا جياني، كبيرة الاقتصاديين في Citi، تتوقع أن “إذا ما تم إقرار خفض للفائدة، فمن المرجح أن يكون هذا هو الأخير في هذه الدورة بالنسبة للبنك المركزي السويدي.”
في اليابان، تراجع الين بنسبة 0.10% إلى 148.06 مقابل الدولار، مقلصًا بذلك المكاسب التي حققها الأسبوع الماضي والتي غذتها النبرة المتشددة لبنك اليابان، ما أثار تكهنات بإمكانية رفع الفائدة قريبًا. هل كانت مجرد فقاعة؟ أم أن السوق يعيد تقييم الموقف؟
أما الجنيه الإسترليني فقد شهد تراجعًا ملحوظًا، ليهبط إلى أدنى مستوى في أسبوعين عند 1.3453 دولار. وهذا يعزى بشكل كبير إلى الضغوط المحلية التي تشهدها بريطانيا، بعد قفزة في الاقتراض العام وقرار بنك إنجلترا الذي أبرز التحدي الحقيقي أمام صانعي السياسات في موازنة النمو والتضخم. جين فولي، رئيسة استراتيجية العملات في Rabobank، لديها نظرة متشائمة بعض الشيء، حيث قالت: “لقد أرجأنا توقعاتنا للتحرك المقبل إلى عام 2026. ومع ذلك، وبما أن هذا الأمر قد تم تسعيره إلى حد كبير بالفعل، ومع تركيز اهتمام المستثمرين بالجنيه الإسترليني على المشهد المالي البريطاني، فإننا ما زلنا نرى أن الإسترليني سيظل تحت الضغط خلال الخريف وربما لما بعده.” يعني باختصار، الجنيه الإسترليني لسه قدامه مشوار صعب.
الدولار الأسترالي كذلك شهد تراجعًا بنسبة 0.17% ليصل إلى 0.6575 دولار، مسجلاً أدنى مستوى له منذ الثامن من سبتمبر. وفي المقابل، ارتفع اليوان الصيني بشكل طفيف ليبلغ 7.1136 مقابل الدولار، مدعومًا بتراجع حدة التوترات التجارية بين بكين وواشنطن، وقرار الصين الإبقاء على أسعار الفائدة القياسية للإقراض دون تغيير.
في النهاية، يبدو أن الأسواق المالية تتحرك على إيقاع دقات قلب “الفيدرالي” الأميركي، وكل كلمة أو إشارة تخرج من واشنطن لها صداها في بورصات العالم. فهل ستكون الخطابات المرتقبة هذا الأسبوع بمثابة خارطة طريق واضحة للمستثمرين؟ أم أنها ستزيد من حالة الضبابية والترقب؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، وكأننا في انتظار جولة جديدة من لعبة الشطرنج العالمية، حيث كل قطعة عملة لها حسابها، وكل قرار يؤثر في اللوحة بأكملها. بالنسبة للمستثمر العادي، أو حتى للمواطن الذي يتابع هذه الأخبار، الأمر كله يصب في سؤال واحد: ماذا يعني كل هذا لمستقبل أموالنا واستقرار اقتصاداتنا؟ علينا أن ننتظر ونرى.