أسعار العقارات في مصر… لغز الارتفاع الدائم وما لا يراه المشتري
هل سبق لك أن تساءلت، وأنت تتصفح إعلانات الشقق، لماذا تستمر أسعار العقارات في مصر بالارتفاع، وكأنها تتحدى كل قواعد السوق المتعارف عليها؟ حتى في أوقات تبدو فيها تكاليف البناء والخامات متقلبة، أو حتى أسعار الفائدة في البنوك تتغير، تظل المؤشرات صعودية. كثيرون يتساءلون: هل المطورون العقاريون يبالغون في التسعير لتحقيق أرباح خيالية، أم أن هناك أسبابًا أعمق لا ندركها كمشترين؟ هذا التساؤل الجدلي، الذي يتردد على ألسنة الجميع، دفعنا للبحث عن إجابات من داخل دهاليز القطاع نفسه.
للوقوف على حقيقة الأمر، تواصلنا مع عدد من أبرز المطورين العقاريين في مصر، محاولين فك شفرة آليات التسعير. هل حقًا هناك مغالاة؟ وما هي العناصر الخفية التي تشكل السعر النهائي للوحدة السكنية؟ الإجابات كانت مدهشة، وتكشف عن تعقيدات قد لا تخطر ببال المستهلك العادي.
ما وراء الأرقام: تشريح تكلفة الوحدة العقارية
المهندس عمرو سليمان، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “ماونتن فيو”، فتح لنا ملف التكاليف بمنتهى الشفافية. ووفقًا لدراسة أعدها قسم البحوث التسويقية في شركته، تتوزع عناصر تحديد تكلفة الوحدة العقارية على النحو التالي: “ثمن الأرض يمثل 25% من إجمالي التكلفة، وتكلفة البناء تأخذ النصيب الأكبر بنسبة 40%، أما التسويق والمبيعات فتبلغ 8%، والمصروفات الإدارية 7%. تكلفة التمويل لوحدها تصل إلى 10%، وفي النهاية، يأتي هامش الربح للشركات بواقع 10%”. هذه الأرقام، كما يراها سليمان، تعكس واقع التكاليف المرتفعة، وتظهر أن هامش الربح الذي يحصل عليه المطور ليس بذلك القدر الأسطوري الذي يتخيله البعض.
ويضيف سليمان تحليلًا مهمًا لسلوك السوق العقاري، مستشهدًا بدراسة لبنك “جي بي جي مورجان” العالمي، والتي توضح أن دورة السوق العقاري في أي دولة تستغرق عادة 7 سنوات. هذه الدورة تمر بمراحل مختلفة: تبدأ بمرحلة التوسع (من 3 إلى 5 سنوات)، تليها وفرة العرض (من سنتين إلى 3 سنوات)، ثم الركود (من سنة إلى سنتين)، وأخيرًا مرحلة الانتعاش (من سنتين إلى 3 سنوات). هذه الدورة الطبيعية التي يمر بها أي اقتصاد، تؤكد أن السوق المصري ليس استثناءً، وأن “المرحلة الحالية التي يمر بها السوق المصري طبيعية، ومتوقع حدوث رواج وانتعاش مجددًا؛ فالطلب مستمر، ومصر دولة تتسم بأنها سوق كبير”. يعني بالبلدي كده، دي دورة طبيعية، والسوق هيقوم تاني.
الربح الحقيقي والمخاطر الخفية
أحد أهم النقاط التي تثير الجدل هي مسألة أرباح المطورين. هل هي بالفعل فلكية؟ المهندس أيمن عامر، المدير العام لشركة “سوديك”، يوضح أن هوامش أرباح الشركات المدرجة بالبورصة المصرية تتراوح بين 15% إلى 25%. وهذا الرقم، حسب رأيه، “يثبت أن الشركات العقارية لا تحقق أرباحًا خيالية كما يتردد، ولا تُسعر الوحدات بمغالاة”. إذا كانت الأرض تمثل 50% من التكلفة والبناء 45%، فكيف يمكن للشركة أن تحقق مكسبًا؟ هذا السؤال بلا شك يوضح أن الحسبة أعقد مما تبدو عليه.
ويشير عامر إلى أن اعتبارات التسعير لا تقتصر على التكلفة المباشرة للأرض والبنية التحتية ومواد البناء فحسب، بل تمتد لتشمل “احتساب عوامل مخاطرة”. المطور يبني مشروعًا على مدى 3 إلى 4 سنوات، وخلال هذه الفترة تحدث تقلبات في أسعار مواد البناء والطاقة والعمالة ومعدلات التضخم والفائدة. فمثلاً، يومية العامل التي كانت 500 جنيه، أصبحت الآن لا تقل عن 1200 جنيه. هذه الزيادات المستمرة لا يمكن تجاهلها، وتتطلب دراسات سعرية تضمن تجنب التغيرات المفاجئة في التكاليف. وعلى الرغم من كل هذه المخاطر، يؤكد عامر أن “نسب المخاطر التي تضعها الشركات في حساب التكاليف لا تتخطى الـ3%”.
التقسيط الطويل.. نعمة أم عبء خفي؟
لعل الجزء الأكثر إثارة في هذا النقاش هو ما كشف عنه المهندس فتح الله فوزي، رئيس لجنة التشييد بجمعية رجال الأعمال المصريين، بشأن آجال السداد الطويلة. يقول فوزي بوضوح إن “مع رفع آجال السداد من قبل المطورين لتصل إلى 10 و12 عامًا، فإن الفوائد تمثل ما لا يقل عن 50% من سعر الوحدة”. يا خبر! 50%؟ الدليل على ذلك، كما يشرح، أنك إذا قررت الشراء “كاش” (نقدًا)، ستحصل على خصومات تصل إلى 40% أو حتى 50% من ثمن الوحدة. هل هذا يعني أننا ندفع نصف قيمة الوحدة تقريبًا كفوائد أقساط دون أن ندرك؟ ده كلام لازم نقف عنده.
ويضيف فوزي أن “قيمة الأرض من إجمالي التكلفة تمثل نحو 25%، والتسويق 10%، والتكلفة الإنشائية والمصروفات الإدارية مع هامش الربح والضرائب 15%”. وهو يؤكد أن نسبة الـ15% الموجهة للإنشاءات والمصروفات لا يمكن للمطور تخفيضها في ظل ارتفاع أسعار الطاقة وتأثيرها على الخامات، بل من الممكن أن تزيد. ويشير إلى أن المحدد الأساسي للأسعار في السوق العقاري المصري هو “العرض والطلب فقط”.
تكاليف التسويق… ومستقبل لا يعرف الانخفاض
المهندس أشرف بولس، رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة “كورنر ستون للتطوير العقاري”، يلقي الضوء على جانب آخر من التكاليف، ألا وهو التسويق. “تكلفة المصاريف التسويقية حاليًا تصل إلى ما بين 10% إلى 15% من إجمالي التكلفة”، مع الإشارة إلى أن الإنشاءات تستحوذ على حوالي 30% والأرض 25%. هذه النسب تختلف من مشروع لآخر، لكنها تظل أرقامًا جوهرية في المعادلة الكلية. ويشدد بولس على نقطة حاسمة: “الارتفاع في أسعار مواد البناء والعمالة وغيرها يسهم في استحالة حدوث انخفاضات في أسعار العقارات”. يعني ببساطة، اللي فاكر إن الأسعار ممكن تنزل قريب، ممكن يعيد حساباته.
ويعتبر بولس أن خفض الفائدة خطوة إيجابية، لكن “السوق لا يزال يحتاج إلى المزيد من التخفيضات” لكي يشعر المستهلك والمطور بالراحة أكثر.
خلاصة القول: الصورة أكبر مما نتخيل
في النهاية، يبدو أن الجدل حول أسعار العقارات في مصر أكثر تعقيدًا من مجرد اتهامات بالمبالغة أو جشع المطورين. نحن أمام منظومة اقتصادية متشابكة تتأثر بعوامل عدة: ارتفاع أسعار الأراضي، التكاليف المتزايدة للبناء والعمالة والطاقة، تكاليف التمويل الباهظة، ونسب المخاطر التي يتحملها المطورون على مدار سنوات التنفيذ. ناهيك عن الدور المحوري الذي تلعبه خطط السداد الطويلة، التي رغم أنها تسهّل الشراء على المستهلك، فإنها تضيف جزءًا كبيرًا – قد يصل إلى النصف – من قيمة الوحدة كفوائد ضمنية.
إذاً، ما الذي يجب أن نستخلصه كمشترين محتملين؟ ربما الأهم هو فهم أن السوق العقاري المصري، كأي سوق كبير، يخضع لدورات طبيعية، وأن الطلب المستمر في بلد بحجم مصر يضمن استمرارية هذا السوق. التفكير بأن الأسعار ستشهد انخفاضات كبيرة قد يكون بعيدًا عن الواقع بالنظر إلى مدخلات التكلفة الحالية. ربما يتعين علينا أن ننظر إلى العقار كاستثمار طويل الأمد، نفهم كل تفاصيله الخفية قبل اتخاذ قرار الشراء، وأن ندرك أن السعر المعلن ليس دائمًا هو ما يراه المطور كربح صافي. الصورة، كما اتضح لنا، أوسع بكثير من مجرد رقم على لوحة إعلان.