في عالم تتقلب فيه الموازين بين ليلة وضحاها، وتتراقص فيه الأسواق على أنغام قرارات اقتصادية وسياسية متسارعة، يبرز الذهب من جديد كـ”ملك” لا يهدأ عرشه. الأسبوع الماضي شهد المعدن الأصفر قفزة نوعية، محلقاً نحو مستويات قياسية لم يبلغها من قبل، وهو ما دفع الكثيرين للتساؤل: هل عاد الذهب حقاً ليكون الملاذ الآمن والرهان الرابح، أم أن الأمر مجرد موجة عابرة في بحر الاضطرابات؟

فقط يوم الإثنين الماضي، حلق سعر الذهب الفوري ليسجل ارتفاعاً بنسبة 0.9%، ليصل إلى 3716.27 دولاراً للأوقية، بعدما كان قد لامس سقفاً تاريخياً عند 3719.65 دولاراً في وقت سابق من اليوم. ولم تكن العقود الآجلة بمعزل عن هذا الصعود المذهل؛ فقد ارتفعت عقود الذهب الأميركية لشهر ديسمبر بنسبة 1.2%، مستقرة عند 3751.20 دولاراً، وفقاً لبيانات “رويترز”. أرقامٌ لا يمكن تجاهلها، تُشير بوضوح إلى أن شيئاً كبيراً يحدث في دهاليز هذا السوق العتيق. ومن الواضح يا جماعة إن الذهب ده مش هزار.

هذه القفزة الكبيرة، التي بلغت نحو 42% هذا العام وحده، لم تأتِ من فراغ. السبب الرئيسي الذي يتبادر إلى الذهن هو قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بخفض أسعار الفائدة الأسبوع الماضي، وتلميحاته إلى إمكانية مزيد من التيسير النقدي. وهنا مربط الفرس، فمتى انخفضت الفائدة، أصبح الاحتفاظ بالذهب، الذي لا يدر عائداً مباشراً، خياراً أكثر جاذبية مقارنة بالسندات أو الإيداعات البنكية. بعبارة أخرى، لما الفايدة تقل، الناس بتشوف إن فلوسها ممكن تحتفظ بقيمتها أكتر في الدهب.

لكن الأمر لا يقتصر على الفائدة وحسب. تخيلوا معي عالماً يكتنفه الغموض الجيوسياسي والاقتصادي، حيث تتصاعد التوترات وتتزايد المخاوف من تباطؤ النمو أو تضخم جامح. في مثل هذه الظروف، يتحول الذهب إلى ملاذٍ آمن بامتياز، يحمي الثروات من عواصف الأسواق المتقلبة. ولا ننسى الطلب الهائل من البنوك المركزية حول العالم، التي تواصل تعزيز احتياطاتها من الذهب كجزء من سياستها لتنويع الأصول وتقليل المخاطر. يعني، لما تشوف البنوك نفسها بتشتري دهب، تعرف إن الموضوع مش بسيط.

إذاً، والذهب بهذه الأهمية، كيف يمكن للمستثمرين الوصول إليه؟ هل الأمر مقتصر على الأثرياء فقط، أم أن هناك طرقاً متنوعة متاحة للجميع؟ بصراحة كده، طرق الاستثمار في الذهب متعددة، وتناسب مستويات مختلفة من المستثمرين. أولها وأكثرها تقليدية، هي السوق الفورية.

في هذه السوق، يتم تداول الذهب بشكل مباشر، وعادة ما تكون البنوك الكبرى والمؤسسات الضخمة هي اللاعب الرئيسي. الأسعار هنا تتحدد لحظياً بناءً على العرض والطلب، والمركز الأبرز عالمياً لهذه التعاملات هو لندن، بفضل جمعية سوق السبائك (LBMA) التي تضع المعايير وتسهل التداول بين الكيانات الكبيرة. ولا نغفل مراكز مثل الصين والهند والشرق الأوسط والولايات المتحدة، التي تشكل أيضاً بؤراً رئيسية لتجارة الذهب الفورية.

أما الطريقة الثانية، فتأخذنا إلى عالم العقود الآجلة. هنا، لا تشتري الذهب نفسه في الوقت الراهن، بل تبرم عقداً لشراء أو بيع كمية محددة منه بسعر متفق عليه في تاريخ مستقبلي. تُعتبر بورصة كومكس (COMEX)، التابعة لبورصة نيويورك التجارية، أكبر ساحة لتداول عقود الذهب الآجلة من حيث حجم التداول. كما تلعب بورصتا شنغهاي وتوكيو للسلع أدواراً هامة في الأسواق الآسيوية، ما يوفر للمستثمرين مرونة أكبر في التعامل مع تقلبات أسعار الذهب.

وإذا كنت ترغب في الاستثمار في الذهب دون عناء تخزين المعدن الثمين، أو القلق بشأن نقله وتأمينه، فصناديق المؤشرات المتداولة في البورصة (ETFs) قد تكون خيارك الأمثل. هذه الصناديق تُصدر أوراقاً مالية مدعومة بالذهب الفعلي، مما يتيح لك التعرض لأسعار الذهب بسهولة عبر سوق الأسهم. ورغم أن حيازاتها انخفضت بمقدار 6.8 طن متري مؤخراً، إلا أن هذه الصناديق شهدت تدفقاً صافياً متواضعاً بلغ 3.4 مليار دولار في عام 2024، وهو الأول منذ أربع سنوات، بحسب مجلس الذهب العالمي. يعني، كأنك بتشتري حتة من الدهب بس من غير ما تمسكه.

أخيراً، لمن يفضل اللمس المباشر لبريقه، يمكن للمستهلكين الأفراد شراء الذهب المادي على شكل سبائك أو عملات ذهبية من تجار المعادن الموثوقين، سواء عبر المتاجر التقليدية أو الإنترنت. هذه الطريقة تُعد وسيلة فعالة للاستثمار المباشر في الذهب، وتمنحك إحساساً بالملكية الحقيقية التي لا تضاهيها أي ورقة مالية.

بعد أن استعرضنا طرق الاستثمار، دعونا نغوص أعمق في العوامل التي تُحرّك بوصلة سوق الذهب. ليه أحياناً بنلاقي الدهب طالع بجنون وأحياناً بيبقى هادي؟ الإجابة تكمن في مجموعة من التأثيرات المتشابكة.

أولاً، اهتمام المستثمرين ومعنويات السوق تلعب دوراً حاسماً. فكلما زاد الاهتمام بالصناديق الاستثمارية أو تزايدت حالة عدم اليقين، زاد الإقبال على الذهب. كذلك، يُعتبر الذهب ملاذاً قوياً ضد تقلبات العملات الأجنبية، وبالأخص الدولار الأميركي. العلاقة بينهما غالباً ما تكون عكسية؛ فكلما ضعف الدولار، أصبح الذهب المقوّم به أرخص لحاملي العملات الأخرى، وبالتالي يزداد جاذبيته، والعكس صحيح. يعني بالبلدي كده، لو الدولار عطس، الذهب بيقوم يجري.

ثانياً، السياسة النقدية والتوترات السياسية. الذهب هو بطل الملاذات الآمنة في أوقات الاضطراب السياسي والاقتصادي. تذكرون مثلاً مخاوف الحرب التجارية وسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمركية؟ وقتها، ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ. وبالمثل، فإن قرارات البنوك المركزية بشأن أسعار الفائدة لها تأثير مباشر؛ فكما ذكرنا سابقاً، انخفاضها يقلل من تكلفة الفرصة البديلة لامتلاك الذهب، الذي لا يدر عوائد مثل الأسهم أو السندات، مما يجعله أكثر جاذبية للمستثمرين.

ثالثاً، احتياطيات الذهب لدى البنوك المركزية. هذه البنوك ليست مجرد مراقبين، بل لاعبين أساسيين. لقد كان طلبها على الذهب قوياً بشكل لافت في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بحالة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي. ومجلس الذهب العالمي يؤكد أن المزيد من البنوك المركزية تخطط لزيادة حيازاتها من الذهب خلال العام الحالي، حتى مع ارتفاع الأسعار، وهو ما يعكس ثقتها المستمرة في المعدن الأصفر كركيزة للاستقرار الاقتصادي. شفتوا بقى، مش إحنا بس اللي بنفكر في الدهب.

في النهاية، يبدو أن الذهب يعود بقوة ليؤكد مكانته كأصل استراتيجي لا غنى عنه في محافظ المستثمرين، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات عملاقة أو حتى دولاً بأكملها. هل سنرى المزيد من الارتفاعات؟ وهل سيستمر المعدن الأصفر في دوره كصمام أمان في وجه التقلبات العالمية؟ الإجابة ليست سهلة، ولكن المؤشرات الحالية كلها تصب في خانة واحدة: الذهب، بتاريخه العريق وبريقه الذي لا يخفت، يظل أكثر من مجرد معدن ثمين؛ إنه رمز للأمان، ومخزن للقيمة، وقصة استثمارية تستحق المتابعة في كل زمان ومكان. فهل أنت مستعد لمتابعة هذه القصة؟

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.