في عالمٍ يتقلب كالبحر الهائج، حيث تترنح الاقتصادات وتتآكل مدخرات الأفراد، يبرز اسم الشاب مصطفى، طالبٌ جامعي سوري قرر ألا يستسلم لموجة التدهور. لم يعد يعرّف نفسه كطالبٍ فحسب، بل أصبح مستثمراً في عالم العملات المشفرة، حاملاً لقب “المتداول” بين أقرانه، لكنه في الوقت ذاته، يفضل إخفاء اسمه الحقيقي، فالبحر الذي يسبح فيه مليء بالتيارات الخفية، وقانونه غامض كضباب الصباح. يبقى الموضوع مش مجرد دراسة وخلاص، دي مسألة مصير ومحاولة للنجاة.

لم تكن هذه الرحلة سهلةً في بدايتها، فقد كانت تتطلب استخدام شبكات افتراضية خاصة (VPN) وأرقام هواتف وهمية لإتمام الصفقات. لكن الوضع، كما يصف مصطفى، تطور قليلاً. “الآن أصبح بالإمكان التداول عبر وسطاء موثوقين داخل سوريا،” يقول، مستدركاً بحذر: “لكننا دائماً حريصون من المنصات غير القانونية، ومن النصب، والخسائر المفاجئة.” حذرٌ مفهوم في سوقٍ غير منظم، حيث كل خطوة قد تكون محسوبة ومخاطرة في آن واحد.

هذه ليست قصة مصطفى وحده. فوفقاً لتقارير محلية وتأكيدات من متداولين، يعتمد آلاف السوريين اليوم على العملات المشفرة، ليس لتحقيق ثراء فاحش بالضرورة، بل كدرع واقٍ يحميهم من التدهور المستمر لقيمة الليرة السورية وشح السيولة. هي ببساطة، طريقة للاحتفاظ بقيمة ما تبقى من مدخراتهم، أو وسيلة لتلقي تحويلات المغتربين، كأنك بتحاول تحافظ على الماية في كوباية مخرومة، لازم تلاقي أي طريقة تسد بيها الثقوب.

عمليات التداول هذه، التي تجري في الخفاء أحياناً وبشكل شبه علني في أحيان أخرى، تتخذ أشكالاً متعددة. فمن مجموعات “P2P” النشطة على تطبيق “تيليغرام” التي تربط المشترين والبائعين مباشرةً، إلى وكلاء التداول المحليين الذين يعملون بنظام الهامش (OTC) في مدن رئيسية مثل دمشق وحلب وإدلب واللاذقية. وفي هذا الفضاء الموازي، يضطر الكثيرون للاعتماد على منصات عالمية مثل “بينانس” عبر استخدام شبكات الـ”VPN” للتحايل على القيود الجغرافية، بينما يفضل آخرون الاستعانة بأصدقاء أو أقارب في الخارج لإتمام عمليات الشراء والتحويل. والطريقة الأكثر شيوعاً تبدأ بتحميل محفظة إلكترونية، ثم شراء العملات الرقمية.

“التيثر” و”البتكوين”: ملاذٌ في زمن الاضطراب

في ظل هذا النشاط المحموم، لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة حول حجم هذا السوق الناشئ في سوريا، لكن المعطيات تشير إلى أن المراكز الحضرية الكبرى تشهد حراكاً مكثفاً، ويُقدّر عدد المتداولين بآلاف الأشخاص. ويتركز التداول غير المرخص، بطبيعة الحال، في المدن التي تشهد وجود وسطاء محليين ومكاتب صرافة تتعامل بهذه العملات. ومع الأزمة المالية التي لا يبدو أن لها نهاية، ينظر الكثيرون إلى العملات المشفرة كخيار لا مفر منه لتخزين الثروات واستقبال الأموال من الخارج.

يشرح الخبير الاقتصادي عدنان إسماعيل، أستاذ كلية الاقتصاد بجامعة اللاذقية، أن العملة الأكثر جاذبية للمتداولين المحليين هي “تيثر” (USDT) على شبكة “ترون” (Tron)، وذلك لاستقرارها النسبي وسرعة تحويلاتها. أما “البتكوين”، فينظر إليها كتحوط طويل الأمد، بينما يُستخدم رمز “TRX” بشكل أساسي للتحويلات منخفضة التكلفة. يعني باختصار، كل عملة ليها استخدامها ودورها في المعادلة الصعبة دي.

موقفٌ رسمي غامض ومستقبلٌ مرهون بالتغيير

على الرغم من هذا الانتشار الواسع، يظل الاستثمار في العملات المشفرة نشاطاً غير مشروع من الناحية الرسمية، وهو ما يضاعف المخاطر على المتداولين. ففي التاسع عشر من أغسطس الماضي، أصدر مصرف سورية المركزي بياناً تحذيرياً شديد اللهجة، مؤكداً أن العملات المشفرة “غير قانونية وغير معتمدة” داخل البلاد، وأن التداول يتم دون أي إشراف أو ترخيص رسمي، داعياً المواطنين إلى أخذ الحيطة والحذر لحماية أموالهم.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذا المنع دائم أم مؤقت؟ هنا تكمن المفارقة. ففي حين أن التداول محظور رسمياً، إلا أن هناك مؤشرات تدعو للتفاؤل الحذر. فقد برزت مقترحات طموحة لإيجاد إطار قانوني مستقبلي، منها خطة نشرها المركز السوري لأبحاث السياسات، وهي مؤسسة بحثية غير حكومية، في أوائل عام 2025. تهدف الخطة لتقنين تداول البتكوين والعملات المشفرة، وحتى إصدار ليرة سورية رقمية مدعومة بالذهب والدولار والبتكوين، مع الاستفادة من موارد الطاقة غير المستغلة للتعدين، وبتأكيد على الاستدامة ومنع الاحتكار.

وفي يونيو 2025، كان هناك إعلان مهم من منصة “بينانس” العالمية، مفاده أنه بعد رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، بات بإمكان السوريين الولوج إلى خدماتها الكاملة، بما في ذلك تداول أكثر من 300 عملة رقمية، والتداول الفوري والمعقد، وخدمات التحويل عبر “بينانس باي”. لم يصدر عن مصرف سورية المركزي أي تعليق رسمي على هذا الإعلان، لكن تحذيراته السابقة تعني أن أي تعامل عبر هذه المنصة يقع تحت مسؤولية المستخدم بالكامل.

ولكن لا تقلقوا، فالآفاق ليست مسدودة تماماً. فراس عيسى، مدير تقنية المعلومات في المصرف المركزي، أكد أن موضوع العملات المشفرة “مؤجل وليس ملغياً حالياً”، مشيراً إلى أن هناك أولويات أخرى كالعملة الوطنية الجديدة ومشروع الدفع الإلكتروني. وصرح عيسى بأن سوريا لن تقبل التداول الرقمي حالياً بسبب مخاطر غسل الأموال والاحتيال، مؤكداً أن التحذيرات تهدف لحماية المواطنين، لكنه لمح إلى أن الدراسات الجارية قد تؤدي إلى نتائج إيجابية في المستقبل. يعني تقدر تقول فيه أمل، بس لسه مش دلوقتي.

التدريب في العلن والمحفظة الرقمية كصندوق أمان

المثير للاهتمام أن المنع الرسمي لم يمنع ممارسات شبه علنية تشير إلى أن السلطات ربما تغض الطرف عن تنفيذ قرارها، أو على الأقل لا تطبقه بصرامة. يقول قتيبة عكام، خبير التداول الرقمي: “بدأت التدريب في سوريا في الشهر الأول من عام 2025، لأن المجال كان ممنوعاً قبل سقوط النظام. هدفنا كان تطوير الشباب وتعليمهم كيفية استثمار أموالهم بشكل صحيح في التداول.” ويضيف عكام بفخر: “اليوم لدينا خيارات واسعة للاستفادة من فروقات الأسعار العالمية بسرعة، مقارنة بالطريقة التقليدية القديمة. ففي الأسواق التقليدية، شراء الذهب يخضع لصياغة التاجر وتحديد السعر، بينما في التداول الرقمي تشتري الأونصة أو العملة كما هي، دون أي عمولة إضافية، وهذا يوفر سهولة كبيرة وأماناً للمستثمر.”

يرى عكام أن بفضل الهواتف الذكية والتطبيقات، يمكن لأي شخص شراء العملات الأساسية مثل “تيثر” أو “بتكوين” وتحويلها عبر الوسطاء المحليين أو منصات عالمية مثل “بينانس” و”باي بت”. ويشدد على أن المحفظة الرقمية تمنح الأمان، إذ تظل أموال المستثمر تحت رقابته المباشرة في الهاتف، وليس في أي مكان آخر. محدش يقدر يحط إيده على فلوسك طول ما هي معاك في محفظتك الرقمية.

ويتذكر مصطفى، المستثمر الناشئ، بداياته: “بدأت التجربة عبر مواقع عالمية مثل مايكي، حيث نكسب مبالغ صغيرة مقابل الإجابة على استبيانات، ثم نستخدم هذه الأرباح لشراء بطاقات رقمية مثل USDT أو بطاقات أمازون.” ثم تطورت التجربة إلى الألعاب الرقمية التي تمنح رصيداً يمكن تحويله إلى عملات مشفرة، ومن ثم إلى التداول على المنصات العالمية. ويصف الشاب هذه الألعاب والتوقعات الرياضية بأنها كانت “بمثابة مختبر للتجربة، نتعلم خلالها المخاطر ونفهم حركة السوق.”

الجانب المظلم: مضاربة محفوفة بالمخاطر

لكن، وبالرغم من كل الوعود والآمال، تظل سوق العملات المشفرة في سوريا محفوفة بمخاطر جمة. فغياب إطار قانوني واضح، وتقلبات الأسعار العنيفة، وعمليات الاحتيال المتزايدة، إضافة إلى مخاطر اختراق المحافظ الرقمية، كلها عوامل تجعل من هذا السوق سيفاً ذا حدين.

يحذر إسماعيل، أستاذ الاقتصاد، من أن التداول في هذه الظروف يُعد “مضاربة محفوفة بمخاطر مرتفعة جداً”، في ظل غياب أي قوانين تحمي المتعاملين. ويشير إلى وجود “غرف” أو مكاتب في الأسواق الرئيسية تُعرف باسم “كوي” أو صالات تداول مؤقتة، تقوم بصرف أجزاء من قيمة البتكوين بالليرة السورية مقابل عمولات.

في النهاية، هذه الظاهرة تتسع بين الشباب الطامحين لتحقيق أرباح كبيرة، لكن التسويق غير القانوني غالباً ما يخفي الخسائر وراء إغراء الأرباح الجذابة. و”عدم تقنين” التداول، وعدم وجود منهجية واضحة، يفتح المجال أمام استغلال الأنشطة غير المشروعة، ويجعل استرداد الأموال في حال الخسارة شبه مستحيل. فهل الأمر يستحق كل هذه المخاطرة؟ يا ترى إيه الحل؟

الخطر الأكبر، كما يحذر إسماعيل، هو تزايد عمليات النصب والاحتيال عبر منصات غير موثوقة، وهجمات القرصنة على المحافظ الرقمية. هذه المخاطر لا تترك للمصرف المركزي خياراً سوى التحرك لإنشاء بيئة ناظمة، وعدم الاكتفاء بالتحذيرات التي لن توقف حركة التداول أو تحد منها. ففي بلدٍ يكافح أبناؤه من أجل البقاء، يصبح توفير بيئة مالية آمنة، حتى لو كانت رقمية، ضرورة قصوى لا ترفاً، فالبحث عن الأمان المالي هو غريزة إنسانية لا يمكن قمعها إلى الأبد.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.