في قلب عمان، المدينة التي تمازج عبق التاريخ بحداثة العصر، انطلقت صباح الإثنين فعالياتٌ كبرى لا تَعِدُ بمجرد نقاشاتٍ، بل ترسم ملامح مستقبل اقتصادي مختلف تمامًا. تحت الرعاية الملكية السامية، استضافت العاصمة الأردنية منتدى “استثمر في الاقتصاد الرقمي”، حاملاً شعارًا طموحًا: “التحول الرقمي من أجل اقتصاد رقمي مستدام”. هل نحن على أعتاب ثورةٍ تكنولوجية تعيد تشكيل المنطقة بأسرها؟ يبدو أن القائمين على هذا الحدث يؤمنون بذلك تمامًا.
لم يكن هذا المنتدى مجرد لقاء عابر، بل هو محطةٌ سنويةٌ باتت ترتادها الأنظار للمرة الثانية على التوالي في الأردن. تنظمه غرفة تجارة الأردن بالتعاون مع الغرفة الإسلامية للتجارة والتنمية، ويجمع تحت مظلته كافة الأطراف الفاعلة في الاقتصاد الرقمي والتقنيات الحديثة من مختلف الدول الإسلامية. تخيل كده، نخبة من العقول المبتكرة وصناع القرار يجتمعون في مكان واحد لمناقشة شيء حيوي زي ده. إنه بحق ملتقىٌ استراتيجيٌ يهدف إلى فتح آفاق غير مسبوقة للتحول الرقمي ودعم روح ريادة الأعمال في ميادين التكنولوجيا والابتكار.
الأهداف المعلنة للمنتدى تتجاوز مجرد تبادل الخبرات؛ إنها رؤية شاملة. يسعى هذا المحفل إلى تعزيز الفرص الاستثمارية في الفضاء الرقمي، وبناء تحالفات دولية متينة تسهم في تطوير بنية تحتية رقمية متقدمة تواكب الإيقاع العالمي المتسارع. فالأردن، بهذا المنتدى، يؤكد سعيه الحثيث لتعزيز مكانته كمركز إقليمي رائد في هذا المجال الحيوي. الغاية الأسمى تكمن في دفع عجلة اقتصاد مستدام يطلق العنان لإمكانات الشعوب، ويقوي موقع المنطقة على الخارطة العالمية للاقتصاد الرقمي. يعني، بصراحة، الموضوع أكبر من مجرد استثمارات، ده مستقبل أمة.
وما يزيد من ثقل هذا التجمع هو تنوع المشاركين فيه. لم يقتصر الحضور على وفود حكومية ووزراء معنيين فحسب، بل امتد ليشمل قاماتٍ وخبراء وباحثين مرموقين في الاقتصاد الرقمي، بالإضافة إلى ممثلي هيئات دولية بارزة وكبار رجال الأعمال من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. والأهم من ذلك، أن المنتدى احتضن أيضًا صغار المستثمرين ورواد الأعمال الشباب في مجال التكنولوجيا الحديثة. هذا المزيج الفريد من الخبرة والطموح يخلق بيئة خصبة لتبادل الأفكار وتوليد شراكات قد تغير وجه الاقتصاد.
ولعل الأجندة التي وُضعت لهذا اليوم الواحد تعكس العمق الذي يطمح إليه المنظمون. اشتمل المنتدى على سلسلة من الجلسات المتخصصة التي غطت أبرز محاور الاقتصاد الرقمي. كانت هناك جلسة حوارية وزارية ركزت على استراتيجيات التحول الرقمي ودور القطاع العام، وهي نقطة جوهرية، لأن التحول ده محتاج دعم قوي من الحكومة. كما شهد الحضور عرضًا تقديميًا لافتًا بعنوان “الأردن بوابة للاقتصاد الرقمي في المنطقة”، استعرض من خلاله مقومات المملكة كمركز إقليمي لا غنى عنه.
الغوص في تفاصيل المستقبل لم يتوقف عند هذا الحد. خصص المنتدى جلسة مهمة لمناقشة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وهما موضوعان لا يمكن تجاهلهما في عالمنا المعاصر. فهل يمكننا بناء بنية تحتية رقمية قوية دون حمايتها من التهديدات المتزايدة؟ قطعًا لا. وتناولت الجلسة فرص الاستثمار المرتبطة بهذين القطاعين الواعدين.
ولأن الابتكار لا يكتمل إلا بدعم الأيدي الشابة، سلطت جلسة أخرى الضوء على ريادة الأعمال وصناديق الاستثمار، مسلطة الضوء على دعم الشركات الناشئة واستعراض قصص نجاح أردنية ملهمة. بالإضافة إلى ذلك، استعرض المنتدى أحدث تطورات قطاع التكنولوجيا المالية (Fintech) ودوره المتنامي في تعزيز الشمول المالي، وهو ما يخدم شريحة واسعة من المجتمع. ولم ينسَ المنتدى التأكيد على مكانة الأردن كمركز لخدمات التعهيد، ودور المؤسسات الأكاديمية في إعداد الكفاءات الرقمية، وذلك من خلال جلسة مخصصة للتعهيد والتعليم الرقمي.
في الختام، يُمكن القول إن منتدى “استثمر في الاقتصاد الرقمي” في عمان لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة إعلان واضح عن تصميم الأردن والدول الإسلامية على اقتحام غمار المستقبل بكل قوة. إنه دعوة مفتوحة للتفكير خارج الصندوق، لاستغلال التكنولوجيا ليس فقط كأداة، بل كركيزة أساسية لبناء اقتصاد مزدهر ومستدام للجميع. ففي عصر تتسارع فيه وتيرة التحولات، يبقى السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لمواكبة هذا التحول الجذري، أم أننا سنكتفي بالمشاهدة؟ المنتدى يضع بين أيدينا خارطة طريق واضحة، والبقية، كما يقولون، تعتمد علينا.