هل تشعر أحيانًا أن الأسواق المالية تتصرف وكأنها كائنات حية تتنفس؟ لحظات من الصخب والاضطراب، ثم فجأة يسودها هدوءٌ يسبق عاصفةً محتملة، أو ربما يُنبئ بتغيرٍ وشيك. هذا بالضبط ما شهدناه يوم الاثنين، حيث وقف الدولار الأمريكي شامخًا، لكن مترقبًا، وكأنه يحبس أنفاسه بانتظار إشاراتٍ قد تُغير مجرى توقعات أسعار الفائدة الأمريكية. المشهد أشبه بلاعب شطرنج ينتظر حركة خصمه الحاسمة قبل أن يقرر خطوته التالية.
بعد أسبوعٍ حافلٍ بالتقلبات والقرارات المصرفية المركزية التي هزت أركان الأسواق العالمية – بدءًا من “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي مرورًا ببنك إنجلترا وانتهاءً ببنك اليابان – جاءت الجلسة الآسيوية لهذا الاثنين أكثر سكونًا. هذا الهدوء النسبي لم يكن يعني غياب التوتر، بل كان أشبه بهدوء البحيرة قبل رمي حجر كبير فيها. فمع استئناف البنك المركزي الأمريكي لدورة التيسير النقدي في الأسبوع الماضي، أصبحت كل كلمة تخرج من قادته تحمل وزنًا مضاعفًا، والكل هنا بيراقب كل كلمة زي ما بنراقب نشرة الأخبار المهمة بالظبط.
الدولار يترقب… والأنظار تتجه نحو الاحتياطي الفيدرالي
ظل الدولار مستقرًا إلى حد كبير، محافظًا على مستواه بعد انتعاشه التدريجي من هبوط مفاجئ شهده الأسبوع الماضي عقب قرار “الاحتياطي الفيدرالي” بخفض أسعار الفائدة. هذه الخطوة، التي ربما لم يتوقعها الجميع، دفعت الدولار للارتفاع بشكل طفيف مقابل سلة العملات الرئيسية، ليلامس مؤشره مستوى 97.78. لكن هذا الانتعاش لم يكن سوى استراحة محارب قبل جولة جديدة من التحديات.
الكل ينتظر، والمقصود بالكل هنا مش بس المحللين والمستثمرين الكبار، لأ ده أي حد بيهمّه الاقتصاد وبيفكر في مدخراته، الناس كلها بتتساءل: إلى أين تتجه السياسة النقدية الأمريكية؟ الإجابة قد تأتي من سلسلة الخطابات المرتقبة التي سيلقيها عدد من مسؤولي “الاحتياطي الفيدرالي” هذا الأسبوع، بمن فيهم رئيسه جيروم باول. إنهم يحملون مفاتيح الرؤى حول المسار الاقتصادي المستقبلي واستقلالية البنك المركزي، وهو ما يُعد جوهريًا بالنسبة للأسواق.
صوت الاستقلال يصدح: ميران يُثير الاهتمام
من بين هذه الأصوات، يبرز اسم ستيفن ميران، محافظ بنك “الاحتياطي الفيدرالي” الجديد. ميران كان قد دافع عن نفسه بقوة كصانع سياسات مستقل يوم الجمعة الماضي، بعد أن خالف الرأي العام وعارض خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس خلال اجتماع السياسة النقدية في سبتمبر. الرجل وعد بتقديم حجج مفصلة وشافية لآرائه في خطاب سيلقيه يوم الاثنين، وهو ما جعله محط أنظار الجميع.
يقول جوزيف كابورسو، رئيس قسم العملات الأجنبية والتحليلات الدولية والجيواقتصادية في بنك الكومنولث الأسترالي، تعليقًا على أهمية خطاب ميران: “هناك بعض الفرص المتاحة لتحريك أسواق العملات من خلال هذه الكلمات… أعتقد أن الخطاب الذي سيلقيه ستيفن ميران سيكون الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة للأسواق، لأن الأسواق سترغب في معرفة رأيه بشأن استقلال (الاحتياطي الفيدرالي) وتأثير الرئيس عليه وما شابه”. وهذا يعني باختصار يا جماعة، إن كلام الراجل ده مش هيعدي مرور الكرام، لأ ده ممكن يعمل فرق كبير.
الين والإسترليني في مهب الريح العالمية
بعيدًا عن ضجيج الدولار، شهدت العملات الأخرى حركتها الخاصة، وكأنها تتأثر بموجات تسونامي اقتصادية تضرب الشواطئ المختلفة. الين الياباني، على سبيل المثال، تراجع بنسبة 0.2% ليصل إلى 148.26 ينًا مقابل الدولار، مقلصًا بذلك مكاسبه التي حققها يوم الجمعة. هذا التراجع جاء بعد أن أثارت لهجة أكثر حزمًا و”تشددًا” من بنك اليابان توقعاتٍ باحتمال رفع أسعار الفائدة في المدى القريب، وهو ما يعتبر تحولًا كبيرًا للبنك الذي طالما عرف بسياسته التيسيرية.
وفي زاوية أخرى من العالم، لم يكن الجنيه الإسترليني بأفضل حال، إذ انخفض إلى أدنى مستوى له في أسبوعين عند 1.3453 دولار. الجنيه يواجه رياحًا معاكسة من الداخل، مدفوعًا بارتفاع الاقتراض العام في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى قرار بنك إنجلترا بشأن سعر الفائدة الذي كشف عن التحدي المعقد الذي يواجهه صانعو السياسات في الموازنة الدقيقة ما بين تحقيق النمو الاقتصادي وكبح جماح التضخم. “الوضع هناك مش سهل خالص”، تقول جين فولي، رئيسة استراتيجية العملات الأجنبية في “رابوبانك”، عن التخفيض المتوقع لسعر الفائدة من بنك إنجلترا: “لقد أرجأنا توقعاتنا للخطوة التالية إلى عام 2026. ومع ذلك، ومع احتساب هذا التخفيض في معظمه بالفعل، وتركيز مستثمري الجنيه الإسترليني بشكل كامل على الوضع المالي في المملكة المتحدة، فإننا لا نزال نرى أن الجنيه الإسترليني سيشهد تراجعًا في الخريف وربما بعده”.
الهدوء النسبي لعملات أخرى
على صعيد عملات أخرى، تراجع اليورو بشكل طفيف بنسبة 0.15% ليصل إلى 1.1731 دولار. بينما شهد الدولار الأسترالي ارتفاعًا بنسبة 0.07% ليصل إلى 0.6595 دولار أمريكي، مستفيدًا من دفعة معنوية جاءت من تعليقات اقتصادية متفائلة من مسؤول رفيع في البنك المركزي الأسترالي. وكذلك صعد الدولار النيوزيلندي بنسبة 0.03% ليصل إلى 0.5858 دولار أمريكي.
أما اليوان الصيني، فقد حافظ على استقرار نسبي ليغلق عند 7.1136 دولار أمريكي. هذا الاستقرار جاء مدعومًا بانحسار حدة التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وهو نبأ سار للأسواق، بالإضافة إلى قرار الصين بالإبقاء على أسعار الفائدة المرجعية على الإقراض دون تغيير.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟
في النهاية، ما الذي تخبرنا به هذه الرقصة المعقدة للعملات والقرارات المصرفية؟ إنها تُبرز مدى ترابط الاقتصاد العالمي، وكيف أن كلمة واحدة أو قرارًا من بنك مركزي في أقصى الأرض قد تُحدث تموجات تصل إلينا جميعًا. إنه تذكير بأن صانعي السياسات المالية يسيرون على حبل رفيع، يحاولون الموازنة بين تحفيز النمو، والسيطرة على التضخم، والحفاظ على استقرار الأسواق، وكل ذلك في بيئة مليئة بالمفاجآت والتحديات.
لذلك، فإن متابعة هذه التطورات ليست حكرًا على الخبراء فحسب. فقرارات “الاحتياطي الفيدرالي” وبنوك مركزية أخرى، وتأثيرها على العملات، يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على أسعار السلع التي نشتريها، على تكلفة الاقتراض، بل وحتى على فرص الاستثمار لدينا. إنها دعوة للتأمل في هذه اللعبة العالمية المعقدة، ومحاولة فهم كيف يمكن لتلك التقلبات الظاهرية أن ترسم ملامح مستقبلنا الاقتصادي. فهل نحن مستعدون لفصول جديدة من هذه القصة؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، أو ربما المزيد من الأسئلة.