هل لاحظت كيف أن الحديث عن الاقتصاد هذه الأيام لم يعد مجرد أرقام جافة أو رسوم بيانية معقدة على شاشات البورصة؟ لا، المسألة أعمق من كده بكتير. العالم كله عايش مرحلة اقتصادية كأنها حبل مشدود على آخره، كل يوم بنصحى على خبر يزود التوتر، من ديون متراكمة لحد قطاعات بتنهار وحروب تجارية بتضرب سلاسل الإمداد، ده غير التوترات الجيوسياسية اللي ولعت من أوروبا لحد الشرق الأوسط وآسيا. الوضع ده، بصراحة، ما بقاش يسمح بتحليل سطحي أو قراءة لحظية، ده محتاج نغوص في الأعماق ونشوف إيه اللي بيحصل في هيكل الاقتصادات العالمية نفسه. قرارات زي خفض سعر الفائدة من الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، مثلاً، مش هي السبب الرئيسي للمشاكل، دي مجرد رد فعل لواقع اقتصادي بقى هش لدرجة تخوف. عشان كده، ما ينفعش نحكم على مصير الدولار أو الذهب أو النفط بناءً على حركة يومية أو قرار فوري؛ القصة كلها بتتحدد بالأسس العميقة اللي بتهتز تحت رجلينا.
أمريكا… والدولار اللي بيترنح
الأسبوع اللي فات، الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قرر يخفض أسعار الفايدة، وده كان بهدف تهدئة المخاطر المتزايدة اللي بتهدد الاقتصاد الأمريكي. لكن الغريب إنهم طلعوا بتصريحات حذرة جداً بخصوص وتيرة الخفض ومقداره في المستقبل، وده طبعاً انعكس بسرعة على الأسواق. مؤشر الدولار اتراجع شوية قبل ما يستقر، وعوائد السندات قفزت بشكل ملحوظ. طيب إيه بقى الحكاية؟ ده بيأكدلنا إن قرارات البنك المركزي دي مش اختراعات من عندهم، دي انعكاس مباشر للي بيحصل في عمق الاقتصاد الأمريكي، وإن فهم مسار الدولار والسندات بيتطلب مننا نشوف إيه اللي بيضرب في قلب البنية الاقتصادية للولايات المتحدة.
شوف مثلاً سوق العمل. المؤشرات هناك بتقول إن الدنيا بتضيق أكتر وأكتر على الناس. معدل التوظيف نزل لأدنى مستوى ليه من 2020، وبطالة الشباب (من 16 لـ 24 سنة) وصلت لـ 17%، وده أعلى رقم من نفس السنة. حتى البطالة الجزئية، اللي هي الناس اللي بتشتغل دوام جزئي غصب عنها أو في وظايف أقل من مؤهلاتها، وصلت 8.1%، وهو مستوى ما شوفناهوش من 2021. والأسوأ من كده، التوقعات بتقول إن 41% من الشركات الأمريكية بتفكر في تسريح عدد كبير من الموظفين في الخمس سنين الجاية، وده بسبب الذكاء الاصطناعي، يعني الآلة هتاخد مكان البني آدم. تخيل إن شهر أغسطس 2025 لوحده شهد تسريح حوالي 86 ألف عامل، وبكده يوصل العدد من أول السنة لأكثر من 892 ألف موظف، وده رقم ما حصلش من الأزمة العالمية في 2008.
ولو روحنا لملف الدين والعجز المالي، هتلاقي الصورة مش وردية خالص. الضغوط المالية على الحكومة الأمريكية زادت بشكل جنوني. الدين العام نط مرة واحدة حوالي 1.3 تريليون دولار في 79 يوم بس، من 36.2 تريليون في يوليو لـ 37.5 تريليون دولار دلوقتي، ودي أسرع زيادة في تاريخ أمريكا! والعجز في ميزانية أغسطس وصل لحوالي 345 مليار دولار. في نفس الوقت، البنوك الأمريكية عندها خسائر مش محققة في الأوراق المالية بحوالي 395 مليار دولار، وده مش كلام جرايد. الأسوأ إن الضغط ده كله رايح على المستهلك الغلبان عن طريق أزمة ائتمان متفاقمة.
بالنسبة للائتمان والاستهلاك، الوضع مقلق جداً. الائتمان الاستهلاكي زاد في يوليو اللي فات لوحده 16 مليار دولار ووصل لـ 5 تريليون، وده تالت أعلى مستوى على الإطلاق. ديون بطاقات الائتمان قفزت هي كمان ووصلت 1.3 تريليون، وهو أعلى مستوى من أواخر 2024. وقروض العربيات والطلاب وصلت أرقام قياسية. طيب هل ده شيء كويس؟ لا خالص. ده معناه إن الناس بتصرف بالديون مش بالدخل المستدام، وده بيخلق طلب وهمي هينقلب بسرعة لأزمة سداد كبيرة هتضغط على البنوك والاقتصاد. معدلات التخلف عن سداد بطاقات الائتمان وصلت لأعلى مستوى ليها من 2012، والديون المتأخرة أكتر من 90 يوم بلغت 12% في الربع التاني من 2025، وده أعلى رقم من 2011. حتى قروض السيارات عالية المخاطر نسبة التخلف عن سدادها وصلت 5% لأول مرة في التاريخ، يعني أضعاف مستويات أزمة 2008! وكمان، الرهون العقارية التجارية الخاصة بالمكاتب المتعثرة وصلت 11%، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. وكل ده بيحصل مع تراجع سريع في درجات الائتمان للأمريكان، وده طبعاً بيعكس تدهور قدرتهم الحقيقية على تسديد اللي عليهم.
على صعيد آخر، المؤسسات الكبيرة كمان بدأت تتحرك بحذر. الصين مثلاً بتبيع السندات الأمريكية باستمرار، وحيازتها منها وصلت لأدنى مستوى من 2008. وشركات استثمار عملاقة زي “مورغان ستانلي” نصحت عملائها يقللوا حيازاتهم من السندات ويزودوا الذهب لحد 20%، بيقولوا إن السندات ما بقتش أمان في وش التضخم. حتى مايكروسوفت نفسها نصحت بالتحوط بـ 20% ذهب، ووصفت السندات الأمريكية بإنها “فخ للعوائد”.
مؤشرات الانكماش في أمريكا بتصرخ بصوت عالي. مؤشر مجلس المؤتمرات الاقتصادي نزل لأدنى مستوى ليه في عشر سنين، وده مؤشر مهم بيتنبوء بالاتجاهات المستقبلية للاقتصاد. كمان مؤشر إدارة التوريد للتصنيع نزل تحت الـ 50 نقطة، وده معناه إن الصناعة في انكماش مستمر. ومؤشر كاس للشحن، اللي بيقيس حركة الشحنات في أمريكا، نزل لأدنى مستوى ليه من أزمة 2008، وده طبعاً بيشير لضعف الإنتاج والطلب. مش بس كده، قطاعات تانية أساسية بتعاني؛ العجز التجاري الزراعي وصل 24.5 مليار دولار في أول خمس شهور من 2025، وأسعار الأخشاب نزلت 20%، وقطاع الإسكان بيواجه تراجع كبير بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض وضعف القدرة الشرائية. وعدد حالات الإفلاس الكبيرة وصل 446 حالة في نفس السنة، وده أعلى رقم في 15 سنة.
كل المؤشرات السلبية دي بتوصلنا لنتيجة واحدة حتمية: ضعف الدولار، اهتزاز الثقة في الاقتصاد الأمريكي، وارتفاع عوائد السندات في المستقبل. الحكومة الأمريكية بتعتمد أكتر وأكتر على الاستدانة عشان تمول التزاماتها. ومع اقتراب استحقاق حوالي 9 تريليون دولار خلال الشهور اللي جاية، واشنطن هتضطر تصدر ديون جديدة بعوائد أعلى، وده هيرفع تكلفة الاقتراض ويزود الضغط على العملة. في ظل الأدوات المحدودة والتغيرات الجيوسياسية العالمية المتصاعدة، ده كله بيعزز احتمالات أزمة مالية جديدة وبيحط الاحتياطي الفدرالي تحت ضغط كبير قبل اجتماعه الجاي. يعني خلاصة الكلام، مسار الدولار والسندات ما بقاش رهن قرارات السياسة النقدية بس، ده مربوط بأزمة ثقة شاملة بتضرب في عمق الاقتصاد الأمريكي.
اليورو… قوة من ضعف الآخرين؟
طيب ولو بصينا على أوروبا؟ مستقبل اليورو بيترسم باللي بيحصل جوه اقتصادات القارة الكبرى. الأرقام هناك بتكشف عن أعباء هيكلية متراكمة ومقلقة. في فرنسا مثلاً، إجمالي الدين الحكومي والخاص وصل لحوالي 7.6 تريليون يورو، وبيزيد بمعدل 6500 يورو في الثانية الواحدة من 2010! وإيطاليا عندها دين عام بيتجاوز 2.8 تريليون يورو، يعني حوالي 140% من ناتجها المحلي الإجمالي، ودي من أعلى النسب في العالم. حتى ألمانيا، اللي بنشوفها قوية، الدين الكلي عندها (حكومي وخاص وخارجي) حوالي 12.9 تريليون يورو، وده 3 أضعاف ناتجها المحلي.
الضغوط المالية دي متزامنة مع تحديات سياسية كبيرة، من أزمة الحكم في فرنسا لحد صعود التيارات اليمينية المتطرفة، ده غير الحرب الروسية الأوكرانية اللي متوقع تدخل مرحلة أسخن مع الشتاء. أوروبا كمان منكشفة بشكل كبير في ملفات الطاقة والغذاء وسلاسل التوريد، وده بيخليها هشة جداً قدام أي أزمة عالمية. كل ده انعكس مباشرة على أسواق الدين، وعوائد السندات الألمانية لأجل 10 سنين وصلت لأعلى من 2.7%، وده أعلى مستوى من 14 سنة. والفرنسية لأجل 30 سنة بتزيد بقالها أربع شهور على التوالي وبتوصل لمستويات قياسية.
في ظل الأعباء دي كلها، اليورو بيظل تحت الضغط. الارتفاعات اللي شفناها مؤخراً دي مش نتيجة قوة داخلية في اقتصادات أوروبا، لأ، دي انعكاس مباشر لضعف الدولار. ممكن يستفيد من ضعف العملة الأمريكية ده ومن تخوف المستثمرين منها، بس قوته هتفضل مبنية على هشاشة الآخرين، مش على صلابته الذاتية.
النفط… بين العرض والتوترات
النفط هو دايماً مراية بنشوف فيها استقرار أو اضطراب الاقتصاد العالمي. حالياً، أسعاره متأثرة بتراجع الطلب وبتباطؤ الاقتصادين الأمريكي والصيني. على جانب العرض، مجموعة “أوبك بلس” قررت تزود الإنتاج تدريجياً، ودخلت في سبتمبر حوالي 547 ألف برميل زيادة يومياً، وبتستعد لزيادة تانية في أكتوبر عشان تستعيد حصتها السوقية بعد سنين من خفض الإنتاج.
لكن في المقابل، العوامل الجيوسياسية بتضغط في الاتجاه المعاكس وبقوة. الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على الخام الروسي، ده غير التوترات في الشرق الأوسط وبحر جنوب الصين، كل دي حاجات بتزود هشاشة السوق. ده غير التحول العالمي للطاقة البديلة اللي بيضيف عدم يقين على المدى المتوسط. يعني بين ضعف الطلب وزيادة المعروض من ناحية، وتصاعد المخاطر الجيوسياسية من ناحية تانية، أسعار النفط هتفضل تحت رحمة التقلبات الحادة، ممكن تتراوح بين 60 و 75 دولار للبرميل في الشهور اللي جاية، مع احتمالات ارتفاعات مؤقتة لو التوترات زادت، لكن من غير استقرار طويل الأمد.
الذهب… الملاذ الآمن في عالم مضطرب
هل الذهب هيواصل الارتفاع؟ الإجابة مش هتلاقيها في رقم لحظي أو قرار من الفدرالي لوحده. القصة أكبر وأعقد. ده شبكة معقدة من العوامل العالمية المتداخلة اقتصادياً وجيوسياسياً اللي خلت الكل يتمسك بالذهب كملجأ للتحوط. من أمريكا لحد الصين، العالم كله بيواجه تحولات هيكلية وأزمات متراكمة.
في أمريكا، أكبر اقتصاد في العالم، الدين العام تضخم لأكتر من 37 تريليون دولار في شهور قليلة، والعجز المالي اتفاقم، ومؤشرات أساسية كتير نزلت لمستويات متدنية. كل ده بيضرب أركان الاقتصاد وبيخلي الناس تدور على أمان. وفي أوروبا، الصورة مش أقل قتامة زي ما شفنا.
ولو بصينا للصين، اللي كانت قاطرة النمو العالمي، قطاع العقارات هناك بيواصل التراجع لأدنى مستوياته التاريخية. مبيعات أكبر 100 شركة عقارية نزلت 18% في أغسطس مقارنة بالعام اللي فات، وللشهر السادس على التوالي، وده معناه إن الركود في القطاع مكمل للسنة الرابعة. وفي اليابان، عوائد السندات قفزت لمستويات غير مسبوقة، وده بيهدد بانفجار أزمة دين عالمي ممكن تسحب السيولة من سوق السندات الأمريكية نفسها ومن أسواق تانية كتير.
المشهد ده كله بيزداد ارتباك مع تصاعد الحروب التجارية والقيود على سلاسل الإمداد، اللي رفعت الأسعار وأشعلت التضخم وقللت أرباح الاستثمار، وده دفع المستثمرين إنهم يدوروا على ملاذات أكتر أماناً عشان يحموا فلوسهم من التآكل.
أما على الجانب الجيوسياسي، فالمخاطر في تصاعد مستمر. الحرب الروسية الأوكرانية بتقرب من مرحلة أسخن مع احتمالات مواجهة مباشرة مع الناتو. بحر جنوب الصين بيشهد احتكاكات متصاعدة. والشرق الأوسط بيشهد إعادة ترتيب وتحالفات جديدة، مع مؤشرات بتزيد كل يوم على تصعيد أكبر في الشهور اللي جاية.
في وش الصورة دي كلها، البنوك المركزية نفسها بدأت تلعب دور أكبر في دعم الطلب على الذهب. نسبة البنوك المركزية اللي بتعيد تنظيم حيازاتها من الذهب بالشراء والبيع بانتظام زادت من 37% في 2024 لـ 44% في 2025. وخلال الربع الأول من 2025، البنوك المركزية اشترت صافي 244 طن ذهب، وزودت 10 أطنان في يوليو بالرغم من ارتفاع الأسعار. الصين لوحدها واصلت تعزيز احتياطاتها الرسمية عشان توصل لـ 2299 طن بحلول نهاية يونيو اللي فات، وده بيمثل 6.7% من إجمالي احتياطاتها الأجنبية، وهو أعلى مستوى ليها من عقود.
الصورة المتشابكة دي بتوضح إن مسار الذهب مش هيتحسم بعامل اقتصادي واحد، لأ، ده خليط من الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية اللي بتضرب العالم كله. وكل ما زادت وتيرة الأزمات دي، كل ما زادت القناعة إن الذهب هيواصل الارتفاع، وهيفضل الملاذ الأبرز في عالم بيزداد اضطراب وقلق.
رسالة أخيرة ليك كقارئ أو مستثمر: الأزمات لما بتخبط على الأبواب ما بتستأذنش، والأرقام اللي فاتت دي خير دليل على هشاشة الواقع اللي بنعيش فيه. في مشهد زي ده، إنك تدور على الملاذات الآمنة، ده بيكون الخيار الأكثر عقلانية. خليك حذر، ودايماً عينك على الصورة الكبيرة، مش بس على اللي بيحصل النهاردة.