هل يتخيل أحد أن يكون اجتماع أهم مؤسسة اقتصادية في العالم، المسؤولة عن توجيه دفة الاقتصاد الأمريكي، ساحة لتصارع سياسي محموم؟ هذا بالضبط ما حدث في أروقة بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا الأسبوع، حيث اجتمع مسؤولو البنك في ظروف استثنائية بكل المقاييس. لم يكن الأمر مجرد قرار روتيني يتعلق بسعر الفائدة، بل كان مزيجاً معقداً من التحديات الاقتصادية العميقة والتدخلات السياسية التي غيرت المشهد تماماً، يا جماعة.

مع اختتام اجتماعهم الذي استمر ليومين، من المتوقع بشدة أن يُعلن صانعو السياسة النقدية عن أول خفض لسعر الفائدة منذ شهور طويلة. هذا القرار، الذي يترقبه السوق بشغف، لا يهدف فقط إلى دعم سوق العمل الأمريكي الذي بدا عليه التعب في الآونة الأخيرة، بل يعكس أيضاً قناعة متزايدة بين مسؤولي الفيدرالي بأن تأثير الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس دونالد ترامب على التضخم سيكون محدوداً ومؤقتاً. ولكن خلف الأبواب المغلقة، أو ربما حتى أمامها، كان هناك أمر آخر يستحوذ على الأحاديث ويُلقي بظلاله الكبيرة على هذا الاجتماع: الجهد المكثف وغير المسبوق الذي يبذله ترامب لإعادة تشكيل قمة الهرم في مجلس الاحتياطي الفيدرالي.

لماذا الآن؟ تشخيص دقيق لاقتصاد متوعك

دعونا نتساءل أولاً: ما الذي يدفع البنك المركزي، الذي يشتهر بحذره، إلى تغيير سياسته النقدية بهذه السرعة؟ الإجابة تكمن في قراءات اقتصادية مقلقة بدأت تظهر بوضوح خلال الصيف. فبعد فترة طويلة من النمو القوي، بدأت مؤشرات سوق العمل ترسل إشارات ضعف واضحة. هل تعلمون أن أصحاب العمل لم يضيفوا سوى حوالي 29 ألف وظيفة فقط في المتوسط خلال الأشهر الثلاثة المنتهية في أغسطس؟ هذا الرقم، وإن كان أعلى بقليل من يوليو، يظل الأضعف منذ عام 2010، إذا استثنينا طبعاً فترة الجائحة.

لم تكن هذه هي العلامة الوحيدة. فقد تجاوز عدد الباحثين عن عمل، وهم عاطلون بالفعل، عدد الوظائف الشاغرة. كذلك، شهد الأسبوع المنتهي في 6 سبتمبر ارتفاعاً في طلبات إعانة البطالة الجديدة إلى أعلى مستوى لها في نحو أربع سنوات، فيما بلغ عدد العاطلين لأكثر من 26 أسبوعاً، وهو ما يطلق عليهم “العاطلون لفترة طويلة”، أعلى مستوياته منذ نوفمبر 2021. يعني بصراحة، الأرقام دي كلها كانت بتصرخ وتقول إن سوق العمل في أمريكا محتاج تدخل سريع عشان يتنفس من تاني. حتى جيروم باول، رئيس الفيدرالي، ألمح لهذا الخفض في خطاب مهم ألقاه أواخر أغسطس، عندما قال بوضوح إن “المخاطر السلبية على التوظيف تتزايد”.

شبح التضخم والرسوم الجمركية: هل هي مجرد موجة عابرة؟

أما عن الجانب الآخر من المعادلة الاقتصادية، وهو التضخم، فالقصة تبدو مختلفة قليلاً. على الرغم من ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 2.9% على أساس سنوي في أغسطس، مدفوعاً إلى حد كبير بسياسات ترامب ورسومه الجمركية، فإن مسؤولي الفيدرالي باتوا مقتنعين بشكل متزايد بأن هذه الزيادة قد تكون مؤقتة. يعني إيه الكلام ده؟

العديد من مسؤولي البنك، مثل ماري دالي من بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، يرون أن “زيادات الأسعار المرتبطة بالرسوم ستكون لمرة واحدة”. وكذلك ألبرتو موسالم من سانت لويس، الذي يتوقع أن “تعمل آثار الرسوم عبر الاقتصاد في غضون ربعين إلى ثلاثة أرباع، وسيتلاشى أثرها على التضخم بعد ذلك”. حتى كريستوفر والر، أحد محافظي الفيدرالي، أكد في خطاب له أن التضخم ارتفع، لكن “هذه الأرقام تشمل تأثيرات زيادة الرسوم على الواردات، والتي أتوقع أن ترفع التضخم مؤقتاً فقط”. بعبارة أخرى، البنك المركزي يعتقد أن هذه الزيادة مجرد فقاعة عابرة لن تؤثر على المدى الطويل. هذا التفسير الهادئ للتضخم هو ما يمنح الفيدرالي المرونة لخفض أسعار الفائدة دون قلق كبير من ارتفاع الأسعار بشكل خارج عن السيطرة.

معركة العرش: ترامب والفيدرالي.. صراع لا يتوقف

لكن القصة لا تتوقف عند التحليلات الاقتصادية فقط. ففي خضم هذه الظروف، كانت إدارة ترامب تمارس حملة ضغط غير مسبوقة على البنك المركزي، الذي طالما اعتُبر حصناً منيعاً للاستقلالية السياسية. منذ بداية ولايته الثانية، لم يتوقف ترامب عن انتقاد باول والفيدرالي علناً، متهماً إياهم بالتباطؤ في خفض أسعار الفائدة. يعني الرئيس نفسه كان عايز الفايدة تنزل وبسرعة!

وقد تجلت هذه الضغوط بشكل درامي في عدة مواقف. أولاً، صادق مجلس الشيوخ بسرعة قياسية على تعيين ستيفن ميران، كبير المستشارين الاقتصاديين لترامب، في مجلس محافظي الفيدرالي. لم يستغرق الأمر سوى شهر واحد تقريباً من الترشيح إلى أداء اليمين، وهو ما يسمح له بالمشاركة والتصويت في اجتماع هذا الأسبوع. تصوروا، صوت جديد يُضاف إلى طاولة القرار، قادم من قلب الإدارة الرئاسية مباشرة، يا ترى ده هيأثر إزاي على القرارات؟ ميران أكد التزامه بقوانين الأخلاقيات واستقلالية رأيه، لكن الديمقراطيين عبروا عن قلقهم الشديد من قربه من الرئيس.

وليس هذا فحسب، بل شهدنا قصة درامية أخرى تتعلق بالعضوة ليزا كوك. ترامب حاول إقالتها في أواخر أغسطس، بدعوى وجود مخالفات مرتبطة بالرهن العقاري، لكن محكمة استئناف رفضت محاولته، وتظل كوك في منصبها بينما تتقدم دعواها القضائية ضد قرار العزل. كوك هي أول عضو في مجلس الفيدرالي يتعرض لمحاولة إقالة بهذا الشكل. ده غير بقى الحوارات التانية، زي تهديد ترامب بإقالة باول نفسه، أو محاولة استخدام مشروع تجديد مقر الفيدرالي كذريعة لاتهام باول بسوء الإدارة. كلها محاولات واضحة لكسر استقلالية الفيدرالي وإخضاعه للرغبات السياسية.

تداعيات الصراع: هل تهتز أركان الاستقلالية؟

في نهاية المطاف، هذا الاجتماع ليس مجرد قرار اقتصادي بحت، بل هو اختبار حقيقي لاستقلالية البنك المركزي الأمريكي، وهو مبدأ أساسي لطالما حمى الاقتصاد من تقلبات السياسة. فخفض سعر الفائدة، وهو قرار منطقي في ظل مؤشرات ضعف سوق العمل، يأتي محاطاً بضغوط سياسية غير مسبوقة. هل سيكون هذا الخفض استجابة للمتطلبات الاقتصادية الخالصة، أم أنه ثمرة لصراع خفي أثر فيه التدخل السياسي على القرار؟

السؤال المطروح على الطاولة الآن هو: إلى أي مدى يمكن لمؤسسة بهذا الحجم والمسؤولية أن تصمد أمام الرياح العاتية للتدخل السياسي؟ وما هو الثمن الذي قد يدفعه الاقتصاد الأمريكي، والعالم بأسره، إذا اهتزت ثقة المستثمرين في حيادية صانع القرار الاقتصادي الأقوى؟ هذه ليست مجرد أرقام وقرارات بنكية، بل هي معركة حول مبادئ الحوكمة السليمة واستقلالية المؤسسات، والتي تؤثر في نهاية المطاف على استقرار حياتنا اليومية ومستقبلنا الاقتصادي. فلننتظر ونرى كيف ستتفاعل هذه القوى المتعارضة، وماذا سيكشف لنا الأيام القادمة عن مصير هذا التوازن الدقيق.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.