هل تخيلت يوماً أن تعيش في بلد يفيض بالشباب والطموح، لكن أبواب الفرص الاقتصادية موصدة أمامك؟ هذا هو الواقع الذي عايشه ملايين الإيرانيين منذ عقود، في ظل نظام سياسي بدأ ملامحه بعد الثورة الإسلامية عام 1979، ليطيح بإرث دولة فارسية ليبرالية ومنفتحة، ويفرض بدلاً منها عزلة دولية وقيوداً اقتصادية صارمة.

إيران، بثرواتها البشرية الهائلة، هي الثامنة عشرة عالمياً من حيث عدد السكان، وتضم قاعدة هائلة من الشباب المتعلم والطموح. تخيل أن 41% من سكانها البالغ عددهم 81 مليون نسمة هم دون سن الثلاثين! يعني ببساطة، جيل كامل طموح وعايز يبني مستقبله، يبحث عن فرص تكسبه استقلاله المالي بعيداً عن نظام يشعرون تجاهه بالتحفظ أو عدم الثقة. لكن للأسف، شح فرص العمل المستدامة، والرقابة الحكومية المشددة على رؤوس الأموال الفردية، وصعوبة تحويل الأموال من وإلى الخارج بسبب العقوبات، كل هذه العوامل خلقت بيئة معقدة.

ولسنوات طويلة، كانت شركات تداول العملات الأجنبية بالتجزئة (الفوركس) تتطلع بشغف لاختراق هذا السوق الواعد. فالعملاء الإيرانيون، مدفوعون بطموحهم ورغبتهم في تحقيق الثراء، كانوا يبحثون عن بدائل استثمارية. لكن الأمر كان أقرب للمستحيل. لماذا؟ ببساطة، لم تكن هناك أي قنوات شرعية لتحويل الأموال. بطاقات الائتمان العالمية مثل “فيزا” و”ماستركارد” والبنوك الكبرى كانت ملتزمة بالعقوبات الأمريكية، مما منع أي تحويلات مالية من العملاء في إيران إلى الشركات الخارجية، وبالعكس. يعني بصراحة، كانت حلقة مفرغة، لا حد عارف يدفع ولا حد عارف يستلم، فكان الوضع ده مقفول تماماً.

لكن يبدو أن رياح التغيير بدأت تهب، حاملة معها بصيص أمل. مؤخراً، بدأت تتشكل بعض الملامح الدبلوماسية بين إيران وثلاث قوى اقتصادية أوروبية رئيسية: بريطانيا، فرنسا، وألمانيا. الهدف؟ تسهيل قناة دفع جديدة بين الجمهورية الإسلامية وهذه الاقتصادات الغربية الكبرى. هذه الآلية الجديدة، التي تحمل اسم “إنستكس” (INSTEX)، تم تصميمها خصيصاً لتمكين الشركات الأوروبية من كافة القطاعات من التجارة مع إيران على أسس خاصة وتجارية، دون الوقوع في انتهاك العقوبات الأمريكية. هذا كان رداً أوروبياً واضحاً على قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي كان قد رفع بموجبه العقوبات الدولية عن طهران.

العقوبات التجارية التي قيدت التحويلات المصرفية ومدفوعات البطاقات الائتمانية من وإلى إيران فُرضت من قبل الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة، وقد التزمت بها غالبية مقدمي الخدمات التجارية والبنوك الغربية. وهذا هو تحديداً مربط الفرس الذي منع شركات وساطة الفوركس الأوروبية من التعامل مع العملاء الإيرانيين. لكن مع إنشاء قناة الدفع الجديدة هذه، والتي ستتخذ من باريس مقراً لها ويشرف على إدارتها مصرفي ألماني، تأمل الدول الأوروبية الثلاث في السماح لشركاتها بمواصلة التجارة مع إيران، متجاوزة بذلك الأنشطة الخاضعة للعقوبات التي تفرضها قنوات الدفع والبنوك المراسلة في الولايات المتحدة.

وزارة الخارجية البريطانية وصفت آلية إنستكس بأنها “آلية جديدة لتسهيل التجارة المشروعة بين الكيانات الأوروبية وإيران”. في البداية، أوضح وزير الخارجية البريطاني آنذاك، جيريمي هانت، أن نظام الدفع الجديد سيقتصر على المواد الغذائية والأدوية والمنتجات الاستهلاكية بالتجزئة، وهي سلع لا تخضع للعقوبات أصلاً. لكن الخبر المثير حقاً، والمهم بالنسبة لقطاع كبير من الشباب الإيراني، هو أن العملات الأجنبية (الفوركس) وعقود الفروقات (CFDs) ستكون متاحة بالكامل للعملاء الإيرانيين، بشرط أن تقدمها شركات بريطانية أو فرنسية أو ألمانية.

وعلى الرغم من أن النفط، المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي لإيران، لن يكون مشمولاً بهذه الآلية، فإن فتح سوق الفوركس والـ CFDs يعتبر تحولاً كبيراً. فبنوك لندن من الدرجة الأولى، والتي تستحوذ على نسبة ضخمة من تدفق طلبات العملات الأجنبية في العالم، هي في الأساس بنوك بريطانية وفرنسية وألمانية (مثل باركليز، سوسيتيه جنرال، ودويتشه بنك). هذه الصفقة التجارية قد تشير إلى تمكين اقتصادي جديد في إيران، وتعزيز هائل لأعمال التجارة الإلكترونية في المملكة المتحدة وأوروبا عموماً.

حتى الآن، كانت إيران سوقاً غير مستغلة تماماً من قبل شركات الوساطة الغربية المرموقة. ونتيجة لذلك، واجه متداولو الفوركس الإيرانيون عوائق كبيرة بسبب الخيارات المحدودة، حيث كانوا مجبرين على التعامل مع شركات شرق أوسطية غالباً ما تكون أقل سمعة، وتفتقر إلى ترتيبات السيولة الجيدة، وتضع أموال العملاء في بنوك من الدرجة الثالثة. وهل تعرف ما معنى ذلك؟ يعني مخاطرة كبيرة برأس المال الشخصي دون أي حماية حقيقية في حال حدوث خطأ أو إذا كان الوسيط غير موثوق به. كثيرون يتذكرون قصصاً مؤسفة حدثت في الماضي، عن استغلال وسيط لعملائه الإيرانيين، وسرقة ملايين الدولارات بأساليب احتيالية مستغلين عجز العملاء عن التواصل المباشر مع الشركات الأجنبية. فتح قنوات مع شركات أوروبية مرموقة يعني توفير بيئة استثمارية أكثر أماناً وشفافية.

لكن هذه الخطوة لم تمر دون رد فعل من واشنطن. فقد صرحت السفارة الأمريكية في برلين بأن “الكيانات التي تستمر في الانخراط في أنشطة خاضعة للعقوبات المتعلقة بإيران تخاطر بعواقب وخيمة قد تشمل فقدان الوصول إلى النظام المالي الأمريكي والقدرة على التعامل مع الولايات المتحدة أو الشركات الأمريكية.” ومع ذلك، أضافت أنها لا تتوقع أن يؤثر نظام المدفوعات الجديد “بأي شكل من الأشكال على حملة الضغط الاقتصادي الأقصى” ضد إيران. يعني بالبلدي كده، الأمريكيين بيقولوا “إحنا لسه مكملين ضغط”، لكن الأوروبيين ماشيين في طريق تاني.

من جانبه، أكد جيريمي هانت أن آلية “إنستكس” هي “جزء من الجهود الأوروبية للحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني ودعمه” و”الحفاظ على تخفيف العقوبات عن الشعب الإيراني”. وأضاف أن هذا “دليل واضح وعملي على أننا لا نزال ملتزمين بشدة بالاتفاق النووي التاريخي لعام 2015 الذي أبرم مع إيران، خطة العمل الشاملة المشتركة، طالما استمرت إيران في تنفيذها بالكامل.” مع ذلك، أشار إلى ضرورة بذل المزيد من العمل لتشغيل النظام، بما في ذلك “العمل مع إيران لإنشاء الهياكل النظيرة الضرورية”.

هل نشهد فصلاً جديداً في تاريخ إيران الاقتصادي، وفصلاً دبلوماسياً يُظهر مرونة السياسات الدولية؟ من المحتمل جداً أن ترغب الشركات الأوروبية عالية الجودة في خدمة العملاء الإيرانيين، وسيسعد العملاء الإيرانيون بالقدرة على التجارة مع شركات منظمة جيداً ولها تاريخ طويل وخدمات مصرفية آمنة وعالية الجودة. الدبلوماسية، عندما تُترجم إلى فرص اقتصادية حقيقية، يمكن أن تكون قوة دافعة للتغيير الإيجابي. إنها ليست مجرد اتفاقيات سياسية على الطاولات الدائرية، بل هي فتح لأبواب رزق وأمل لملايين البشر. قد تكون مجرد خطوة أولى، لكنها خطوة تحمل في طياتها الأمل بالاتصال والازدهار لمجتمع طالما بحث عن فرصته في عالم منفتح.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.