القاهرة تمد أياديها للشرق: كيف تعزز زيارة رئيس سنغافورة طموحات مصر الاقتصادية؟
في عالم تتسارع فيه وتيرة التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، تبدو زيارة رئيس دولة من أقصى شرق آسيا إلى قلب إفريقيا والشرق الأوسط كخطوة محسوبة على رقعة شطرنج عالمية معقدة. مؤخرًا، استقبلت القاهرة الرئيس ثارمان شانموجاراتنام، رئيس جمهورية سنغافورة، في زيارة لم تكن مجرد بروتوكول دبلوماسي عابر، بل حملت في طياتها رسائل واضحة وطموحات مشتركة لفتح صفحة جديدة في سجل العلاقات بين البلدين. إنها زيارة تعكس عمق الروابط، وتُبشر بمستقبل يزخر بالتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري.
تكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة للغاية في التوقيت الراهن، فالقاهرة تسعى جاهدة لتنويع شراكاتها الاستراتيجية، ناظرة بعين ثاقبة نحو القوى الاقتصادية الآسيوية الكبرى. هل تعلم أن مصر تطمح لأن تعزز مكانتها كبوابة رئيسية لا غنى عنها للأسواق الإفريقية الشاسعة؟ هذه هي الرؤية التي تقود سياساتها الخارجية والاقتصادية، ومن هنا جاء الاهتمام البالغ بتعزيز العلاقات مع دول كالصين واليابان والهند، والآن، سنغافورة تحديدًا.
يؤكد الدكتور أشرف غراب، الخبير الاقتصادي ونائب رئيس الاتحاد العربي للتنمية الاجتماعية لشئون التنمية الاقتصادية بجامعة الدول العربية، أن توقيت الزيارة كان مناسبًا بشكل لا يصدق. “مصر حاليًا بتشهد طفرة في علاقاتها مع آسيا، وده مش كلام جرايد، دي حقيقة على الأرض”، هكذا علّق الدكتور غراب في تصريحاته، مشددًا على أن هذه الزيارة ستُسهم بلا شك في تعميق الشراكة الاستراتيجية. وعندما نتحدث عن سنغافورة، فنحن أمام نموذج اقتصادي عالمي فريد ومُلهم، لدرجة أن البعض يعتبرها معجزة اقتصادية. هذا البلد الصغير جغرافيًا، العملاق اقتصاديًا، يُعد قصة نجاح باهرة في مجال التجارة الخارجية والاستثمار، فكمية تجارتها الخارجية تعادل حجم التجارة العربية بأكملها، متخيلين؟ هذا وحده يعطينا فكرة عن الكفاءة والاحترافية التي تعمل بها.
ما الذي يجعل سنغافورة شريكًا مثاليًا لمصر، وما الذي تستفيده سنغافورة بدورها؟ يوضح الدكتور غراب أن الزيارة من المتوقع أن تُعزز سبل العلاقات الثنائية وتُطور التعاون الاقتصادي والاستثماري المشترك. من ناحيتها، مصر تتمتع بفرص استثمارية متنوعة وجاذبة للغاية، ولعل أبرزها المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي أصبحت محورًا لوجستيًا وصناعيًا عالميًا. بالإضافة إلى ذلك، تشهد البلاد طفرة تنموية غير مسبوقة، مصحوبة ببنية تحتية متطورة، وبنية تشريعية قوية مصممة لحماية المستثمرين، وحوافز استثمارية مغرية، وتوسعات في توفير الأراضي الصناعية، ناهيك عن “الرخصة الذهبية” التي سهّلت الكثير على المستثمرين الجادين. يعني، بصراحة، مصر شغّالة على كل الجبهات عشان تكون وجهة استثمارية عالمية.
لم تكن الزيارة مجرد لقاءات دبلوماسية، بل شهدت توقيع عدد من مذكرات التفاهم الهامة في مجالات متعددة. تخيل معي: اتفاقيات في قطاعات حيوية مثل الصحة، والنقل البحري الذي يمثل عصب التجارة العالمية، والزراعة التي تكتسب أهمية متزايدة، وصولًا إلى الحماية الاجتماعية ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تُعد قاطرة التنمية الاقتصادية. كل هذا إلى جانب مناقشات معمقة حول تعظيم سبل التعاون الاستثماري والتجاري. كما أن انعقاد منتدى الأعمال المصري السنغافوري على هامش الزيارة يُتوقع أن يكون له أثر كبير في زيادة حجم الاستثمارات السنغافورية في مصر وتعزيز التبادل التجاري. الأرقام هنا بتتكلم بصوت عالي: فبينما بلغت قيمة التبادل التجاري خلال النصف الأول من العام الجاري نحو 137 مليون دولار، كانت قد سجلت 316.9 مليون دولار في نفس الفترة من العام الماضي، مما يشير إلى ضرورة تكثيف الجهود واستغلال الزيارة لدفع هذه الأرقام نحو النمو المستدام.
هل تعلم أن سنغافورة أصبحت خامس أكبر مستثمر أجنبي في مصر؟ هذا ليس بالرقم الهين، فاستثماراتها بلغت نحو 210.3 مليون دولار خلال النصف الأول من العام المالي السابق وحده. ليس هذا فحسب، بل وصلت تحويلات المصريين العاملين بسنغافورة إلى حوالي 30.3 مليون دولار خلال العام المالي الماضي، مما يعكس روابط بشرية واقتصادية عميقة.
وفي النهاية، تظل مصر تتميز بموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يجعلها بوابة إفريقيا بامتياز. هذا الموقع يُمكّن المستثمرين الأجانب، ومنهم السنغافوريون، من الوصول إلى السوق الإفريقية الشاسعة بسهولة، مما يُعظم فرص الاستثمارات الأجنبية الوافدة. إن دخول الاستثمارات السنغافورية بهذا الحجم والزخم يعكس ثقة واضحة لا غبار عليها في البيئة الاستثمارية المصرية، ويعزز من مكانة مصر كوجهة استثمارية واعدة في المنطقة. هل يمكن أن نتخيل حجم التأثير الذي سيعود على مصر من جذب المزيد من الاستثمارات الآسيوية والأوروبية الجديدة بفضل هذه الثقة المتنامية؟
إن زيارة الرئيس شانموجاراتنام إلى مصر ليست مجرد حبر على ورق، بل هي إشارة واضحة إلى أن القاهرة جادة في رسم مستقبلها الاقتصادي بخطوات مدروسة، وأنها تفتح ذراعيها لشراكات استراتيجية تستشرف المستقبل. هي دعوة للتفاؤل، بأننا في طريقنا الصحيح نحو تحقيق طموحات التنمية والازدهار، وأن جسرًا جديدًا يمتد الآن بين ضفاف النيل وقلب آسيا النابض. فإلى أين يمكن أن يقودنا هذا الجسر؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف لنا الإجابة.