في عالمٍ تتداخل فيه الاقتصادات وتتشابك فيه مصائر الأسواق، تبرز ظاهرةٌ لافتةٌ تستحق التأمل: تزايد الإقبال المصري على شراء العقارات في الخارج. هل باتت عيون المستثمرين المصريين تتجاوز حدود الوطن بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ أو فرصةٍ واعدةٍ؟ هذا هو السؤال الذي يشغل أروقة النقاشات العقارية والاقتصادية حاليًا، في ظل تباين آراء الخبراء حول أبعاد هذه الظاهرة وتداعياتها على المشهد المحلي.
لم يعد الاستثمار العقاري حكرًا على الداخل، فالتوجه نحو العقارات الدولية صار خيارًا جذابًا لشريحةٍ لا يُستهان بها من المصريين. يرى مطورون عقاريون أن هذه الزيادة، وإن كانت ملحوظة، لا تُشكل تهديدًا مباشرًا للسوق المحلي، فالأسباب التي تدفع هذا التيار غالبًا ما تكون متجذرة في رغبةٍ عميقةٍ في تنويع المحافظ الاستثمارية، وتحقيق عوائد مجزية يصعب أحيانًا تحقيقها في ظروفٍ اقتصادية متقلبة. بصراحة، مين فينا مش بيدور على استقرار لفلوسه وعائد كويس؟
تتعدد الأسباب الكامنة وراء هذا النزوح الاستثماري، في مقدمتها الرغبة في تأمين رأس المال بعيدًا عن تحديات السوق المحلية، وخصوصًا تقلبات سعر الصرف التي يمكن أن تأكل قيمة المدخرات ببطءٍ وثبات. فالعائد الاستثماري الجيد في الخارج، إلى جانب استقرار العملات الأجنبية، يُشكلان مغناطيسًا قويًا يجذب أنظار المستثمرين. لكن الأمر لا يتوقف عند حدود الاقتصاد البحت؛ فنسبة كبيرة من هؤلاء العملاء، كما يشير بعض الخبراء، أصبحت تستهدف في المقام الأول نمط حياةٍ مختلفٍ تمامًا. يعني مش بس استثمار، ده كمان تغيير لمستوى المعيشة.
على الرغم من الوهج الذي يحيط بهذا النوع من الاستثمار، لا يخلو الأمر من بعض التحديات الجوهرية. يُشير بعض المطورين إلى صعوبة إعادة بيع العقارات الأجنبية بسرعة في بعض الأحيان، وهي نقطة تستدعي الحذر والتخطيط المسبق. كما أن مشهد الشركات الأجنبية وهي تنظم معارض ترويجية ضخمة في مصر لبيع عقاراتها، قد يكون مؤشرًا على ضعف الطلب المحلي في بلدانها الأصلية، ما يدفعها للبحث عن أسواقٍ جديدة ونشطة كالسوق المصري، وهي فرصة يجب استغلالها بوعي وحذر.
دبي، بلا شك، تتربع على عرش الوجهات المفضلة للمستثمرين المصريين في الخارج. فقد رصدت شركة “ألسوب أند ألسوب” (Allsopp & Allsopp)، المتخصصة في الاستشارات العقارية بدبي، نموًا مذهلاً بنسبة 61% في عدد المشترين المصريين للعقارات في الإمارة بحلول نهاية عام 2024. ولم يتوقف الزخم عند هذا الحد؛ ففي الشهرين الأولين من عام 2025، قفز عدد المشترين المصريين بنسبة 150%، ليحتلوا بذلك المرتبة الخامسة بين أكبر الجنسيات في مشتريات العقارات بدبي، بعد الهنود والسعوديين والبريطانيين والباكستانيين. هذه الأرقام، بصراحة، تدل على تحول كبير في بوصلة الاستثمار.
وما يزيد الطين بلة (أو حلاوة، حسب وجهة النظر)، هو تحليل صادر عن شركة “نايت فرانك” للاستشارات العقارية (Knight Frank)، والذي أكد أن المصريين كانوا الأكبر حظًا بين مشتري العقارات في دبي خلال السنوات الأخيرة، وذلك عند احتساب أثر تقلبات العملة. بمعنى آخر، المكاسب التي حققها البعض من فرق العملة كانت أكثر من مجرد هامش ربح.
تأتي هذه المعطيات متزامنة مع تقرير لشركة “ذا بورد كونسلتنج” للاستشارات العقارية عن النصف الأول من عام 2025، والذي ألقى الضوء على هذه الظاهرة المتنامية، مؤكدًا تزايد عدد المستثمرين المصريين الذين يشترون عقارات في الخارج، لا سيما في دبي وأبو ظبي، لتليهما اليونان وعمان كوجهاتٍ صاعدة. هل هذا يعني أننا على أعتاب موجة جديدة من الاستثمارات العابرة للحدود؟ يبدو الأمر كذلك.
في الختام، يطرح هذا التوجه الجديد العديد من التساؤلات حول طبيعة الاقتصاد المصري ومستقبل الادخار والاستثمار فيه. هل هي ردة فعل طبيعية لمتغيرات اقتصادية عالمية ومحلية؟ أم أنها تحول هيكلي في عقلية المستثمر المصري الذي أصبح يبحث عن فرصٍ تتجاوز المألوف؟ سواء كانت محاولةً لتأمين الثروة من تذبذبات السوق، أو سعيًا وراء نمط حياةٍ أفضل، أو مزيجًا من الاثنين، فإن هذه الظاهرة تستدعي منا وقفةً تحليليةً عميقةً لفهم أبعادها وتأثيراتها المحتملة على المدى الطويل. ففي النهاية، قرارك الاستثماري اليوم قد يرسم ملامح مستقبلك الاقتصادي غدًا، والوعي بالصورة الكبيرة هو مفتاح النجاح.