في عالم تتسارع فيه الخطوات وتتلاحق فيه الابتكارات بسوق العملات الأجنبية، ألا يستحق عملك أن يُدار بأعمق فهم وأدق رؤية؟ هذا ليس مجرد سؤال، بل هو تحدٍ يواجهه الوسطاء يومياً، وسط صخب المنافسة وتجدد الأساليب. فهل تدرك كل زاوية من زوايا عملك، أم أن هناك أركاناً مظلمة قد تكلفك الكثير؟
في قلب قبرص النابض، حيث تتلاقى الخبرات وتصطدم الأفكار في عالم المال الرقمي، اجتمع قادة صناعة الفوركس مؤخراً في معرض iFXEXPO بليماسول. لم يكن اللقاء مجرد تبادل للبطاقات التعريفية أو استعراض لآخر الابتكارات، بل كان محطة تأمل عميق في أسس العمل، وكيف يمكن للمؤسسات أن تضمن بقاءها وتطورها في هذا المشهد المتغير باستمرار. السؤال الأهم الذي فرض نفسه على النقاشات الجادة: هل تعرف شركتك حقاً، بكل تفاصيلها الخفية والواضحة؟
في اليوم الثاني من هذا الملتقى الكبير، تركزت المحادثات بين نخبة الرؤساء التنفيذيين على محورٍ حيوي: تحقيق الكفاءة التشغيلية عبر تسخير التكنولوجيا الذكية. وقد أخذت الأضواء حوار شيق جمع كريس رو، مدير تطوير الأعمال في شركة Gold-i الرائدة، مع أندرو ساكس-ماكليود، الرئيس التنفيذي لموقع FinanceFeeds. كان محور اهتمامهما جانب غالباً ما يُهمل، ومع ذلك فهو أساسي لنمو واستدامة أي وساطة: إدارة المخاطر. رو أكد بحزم أن “المخاطرة هي أحد الجوانب الحيوية لعمل الوساطة اليوم”، مضيفاً أن النظرة إليها يجب أن تكون من خلال عدسة تكنولوجية متطورة، بعيداً عن التصورات البيروقراطية التقليدية التي يثيرها عادةً ذكر شركات التأمين والمحاسبة.
يا جماعة، الموضوع أبسط مما نتخيل. كريس رو شرح لينا المسألة ببساطة: “كتير من العملاء مبيفكرش في تكلفة المخاطرة إلا لما تحصل مشكلة فعلية، وساعتها بيكلفهم الموضوع ده كتير جداً”. يعني إيه؟ يعني الناس غالبًا بتستنى لما العربية تعطل خالص عشان تفكر تصلحها، مش بتعمل صيانة وقائية. وضرب رو مثالاً بمنتجهم، نظام ذكاء الأعمال Visual Edge، الذي يكلف حوالي 3000 جنيه إسترليني. “أحياناً بنتساءل ليه الوسيط يدفع في المنتج ده؟” يقول رو. والإجابة قاطعة: “منتج ممكن يكسبك 50,000 جنيه إسترليني إضافية شهرياً عن طريق زيادة الكفاءة، هو استثمار مربح جداً، مش كده؟”. الفكرة هنا إنك مش بتدفع فلوس في رفاهية، إنت بتستثمر في أمانك ومكاسبك المستقبلية.
هذا التوجه نحو تعزيز الكفاءة وإدارة المخاطر لم يعد حكراً على شركة واحدة. فقد أشار رو إلى أن منتجهم كان الأول في هذا السوق المتخصص، لكن العام الحالي شهد ظهور حلول أخرى، ما يؤكد ديناميكية السوق وحاجته المتزايدة لمثل هذه الأنظمة. ويتوقع رو مستقبلاً لا يقل إثارة، قائلاً: “أعتقد أننا بعد خمس سنوات سننظر إلى الوراء ونتساءل كيف كنا ندير أعمالنا دون حلول ذكاء الأعمال هذه. في عام 2006، كنا سعداء بدون الهواتف الذكية، لكن اليوم أصبحت الحياة لا تسير بدونها. سيحدث الأمر بنفس الطريقة؛ كل وسيط عاقل خلال خمس سنوات سيكون لديه هذا النوع من التكنولوجيا”. هل نتخيل حياتنا اليوم بدون هاتف ذكي في جيبنا؟ ببساطة، هذا هو المستقبل الذي ينتظر صناعة الوساطة.
لكن لماذا هذا الإلحاح على تبني التكنولوجيا؟ تخيل معي موقفاً يحدث فيه تحرك كبير ومفاجئ للعملة، هل أنت مستعد؟ بدون أنظمة ذكاء الأعمال هذه، كيف يمكن لك كشركة وساطة أن تعرف مراكزك الحالية ومدى تعرضك للمخاطر بشكل آني ودقيق؟ يجيب رو بمرارة: “سيتعين عليك الغوص عميقاً في عمليات التداول، والحصول على تقارير من مزود رأس المال أو السيولة الخاص بك، ثم إنتاج تقرير من منصة MetaTrader 4، ووضعه في جدول إكسل. وبحلول الوقت الذي تنتهي فيه من كل ذلك، تكون البيانات قد عفا عليها الزمن تماماً، وهكذا تصبح تعمل بناءً على معلومات غير صالحة”. يعني باختصار، كأنك بتقود سيارة بسرعة الصاروخ وعينيك على المرايا اللي بتوريك اللي فات، مش اللي جاي قدامك.
التحرك السلبي أو رد الفعل ليس خياراً في هذا السوق. رو يؤكد أن “أول ما يجب فعله هو الحصول على فهم جيد للوضع الكامل للشركة واتخاذ قرار مؤهل بشأن التحركات المستقبلية، بدلاً من اتخاذ موقف سلبي”. من المستحيل إدارة شركة دون معرفة الربح والخسارة الحقيقية، بما في ذلك الأرباح والخسائر غير المحققة التي لا توفرها منصات مثل MT4 بسهولة. وقديماً في تجارة العملات بالتجزئة، لم يكن أحد يهتم تقليدياً بهذه التفاصيل، ما أدى إلى شعور بالرضا الزائد عن النفس في بعض الأحيان طالما أن العملاء يتداولون والأموال تتدفق. “هل يستطيع مهندس أن يدير مشروعه دون معرفة نموذج الربح؟ بالطبع لا! فلماذا نتقبل هذا في مجال الوساطة المالية؟” يتساءل رو.
لم تعد الحلول الربحية تكمن في الضغط على مزودي السيولة أو بائعي التكنولوجيا لخفض الأسعار فحسب. فكما أوضح رو، أرباح الوسطاء يمكن أن تكون أكبر بكثير إذا فهموا أعمالهم بمعلومات كاملة وحققوا أقصى قدر من الأرباح داخلياً. ببساطة: “من الأفضل النظر إلى الداخل بدلاً من الخارج لزيادة الربحية”. لقد شهدت الأشهر الثمانية عشر الماضية مكاسب كبيرة في عقود التكنولوجيا، لكن مساحة خفض التكاليف أصبحت ضئيلة الآن. “البحث داخلياً هو الطريق الصحيح للمضي قدماً بالنسبة للوسيط العاقل والمطلع جيداً،” يؤكد رو.
الأحداث غير المتوقعة، مثل قرار البنك الوطني السويسري المفاجئ بإلغاء ربط زوج اليورو مقابل الفرنك السويسري عند 1.20، أثرت على “الأشخاص الخطأ”، كما يصفهم رو. الشركات التي كانت تدير بيئة سوق حية (A-Book) تعرضت لخسائر فادحة، بينما كانت العديد من شركات “B-Book” سعيدة لاستيعابها جميع الصفقات. هذا الحدث الكارثي دفع العديد من الشركات للبحث عن نموذج بديل لإدارة المخاطر، يُعرف بـ “الكتاب الإلكتروني” (e-book). وهو حل يتضمن التحوط اليدوي، وغالباً ما يقدم مزودو السيولة صفقات أفضل للوسيط الذي يرسل جميع صفقاته عبرهم.
لكن ما هو هذا “الكتاب الإلكتروني” بالضبط؟ على الرغم من اختلاف الآراء حول تعريفه، إلا أنه في جوهره عملية “e-book” مع تغطية السوق بعد التداول. وهذا، بالإضافة إلى المعلومات التجارية الدقيقة والموثوقة، يمكن أن يكون أحد السبل لتأمين مستقبل شركات التجزئة ضد المخاطر المتقلبة، مع الاستمرار في توفير بيئة تداول ممتازة للعملاء. الفكرة مش إنك تعمل تحوط وبس، الفكرة إنك تعمل تحوط ذكي مبني على بيانات حقيقية ولحظية.
في الختام، يبدو واضحاً أن البقاء في صدارة المشهد التنافسي لسوق الفوركس لم يعد رفاهية، بل ضرورة ملحة. إن الفهم الشامل لعمليات الشركة، وتحليل المخاطر بذكاء تكنولوجي، واتخاذ قرارات استباقية مبنية على بيانات حديثة، هي العوامل الحاسمة لنجاح أي وسيط. فهل أنت مستعد لرحلة الغوص عميقاً في بيانات شركتك، أم أنك ستنتظر حتى تصبح التكنولوجيا الذكية مجرد ضرورة تفرضها عليك الظروف، تماماً كالهاتف الذكي اليوم؟ المستقبل لا ينتظر، ومن يمتلك المعرفة الحقيقية لشركته هو من سيكتب قصته في سوق الغد.