هل تخيلت يوماً أن محفظتك الرقمية قد تصبح أقوى من أي خزينة، وأن الحدود التقليدية للمال تتلاشى لتفسح المجال لعالم مالي جديد؟ في قلب الشرق الأوسط، وتحديداً في الإمارات العربية المتحدة، لا يزال هذا التساؤل يتجاوز مجرد كونه خيالاً علمياً، ليتحول إلى واقع ملموس يُعاد تشكيله بوتيرة متسارعة. الإمارات، تلك الدولة الطموحة التي لا تتوقف عن إبهار العالم، تتربع اليوم على عرش ريادة العملات المشفرة إقليمياً، وتنافس بقوة على الصعيد الدولي، لتُثبت أنها ليست مجرد مركز مالي تقليدي، بل حاضنة مبتكرة لمستقبل الاقتصاد الرقمي.
تقرير “هنلي لمؤشر تبني العملات المشفرة لعام 2024” كشف للتو عن حقيقة لافتة: الإمارات تحتل المرتبة الثالثة عالمياً في تبني العملات المشفرة، متفوقة على العديد من القوى الاقتصادية الكبرى، ومُحاطة بدول سبقتها بقليل مثل سنغافورة وهونغ كونغ. هذه ليست مجرد أرقام، يا جماعة، هذه تعكس رؤية استراتيجية واضحة. فلنتخيل أن حوالي 30% من سكان الإمارات يمتلكون بالفعل عملات مشفرة، وهذا الرقم ليس ثابتاً، بل يتوقع أن ينمو سوق العملات الرقمية هناك بنسبة 8% سنوياً خلال السنوات الأربع المقبلة. يعني بصراحة، الموضوع مش مجرد موضة عابرة، ده استثمار في المستقبل.
لكن ما حجم هذا السوق بالضبط؟ وهل يتجاوز مجرد تداولات الأفراد؟ الإجابة تأتينا من أحمد عزام، رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة “إكويتي”، الذي أوضح لـ”النهار” أن حجم سوق العملات الرقمية في الإمارات قد يتجاوز حاجز الـ 50 مليار دولار سنوياً. هذا رقم ضخم، أليس كذلك؟ وهو يفسر لنا الفارق الدقيق: فإذا قسنا النشاط على الشبكات العامة فقط (الـ “on-chain” زي ما بنقول)، فالأرقام التاريخية تتراوح بين 30 و34 مليار دولار سنوياً. أما إذا أضفنا لها التداولات خارج السلسلة (الـ “off-chain”) التي تتم عبر المنصات المركزية، وحجم المشتقات، وتسويات الشركات العاملة من داخل الدولة، فالإجمالي قد يقفز إلى 50 مليار دولار ويتجاوزها. الفارق طبيعي جداً، لأن سوق العملات المشفرة اليوم تتوزع بين قنوات متعددة: سلاسل عامة، منصات مرخصة محلياً، ومراكز سيولة عالمية، كلها تعمل بفاعلية من الإمارات.
وما الذي يدعم هذا النمو المذهل؟ ببساطة، البيئة التنظيمية التي لا هوادة فيها. السلطات الإماراتية لم تكتفِ بالمشاهدة، بل أوجدت أطراً قانونية قوية مثل سلطة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA) في دبي، وسوق أبوظبي العالمي (ADGM)، بالإضافة إلى مناطق حرة اقتصادية مثل مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC). هذه الكيانات، بجدية، نجحت في استقطاب المئات من الشركات المتخصصة في أنظمة البلوكتشين والعملات الرقمية، مما جعل الإمارات نقطة جذب عالمية للمواهب والاستثمارات في هذا القطاع.
وبالحديث عن المستقبل، كيف سيبدو سوق الكريبتو الإماراتي بحلول عام 2030؟ الخبراء يتحدثون عن سيناريوهين رئيسيين. السيناريو الأول، وهو التقليدي، يفترض معدل نمو سنوي مركب يتراوح بين 15 و20%، مع حجم تداولات رسمية على الشبكات العامة بين 30 و34 مليار دولار سنوياً. يدعم هذا السيناريو ثلاثة عوامل رئيسية: المدفوعات والعملات المستقرة في التجارة والتحويلات، ثانياً ترميز الأصول الواقعية (RWA) وخاصة في العقارات والتمويل التجاري، وثالثاً تدفق الشركات والمؤسسات مع اتضاح الأطر التنظيمية. في هذا السيناريو، قد تتراوح قيمة التداولات على الشبكة العامة بحلول 2030 بين 75 و100 مليار دولار.
لكن هناك سيناريو آخر، أكثر تفاؤلاً وإثارة، يُطلق عليه “السيناريو الزخمي”. هذا السيناريو يجمع بين تداولات العملات الرقمية داخل الشبكة العامة وخارجها، ويستند إلى ثلاث ركائز أساسية: رسوخ تنظيمي عالمي، ضخ سيولة مؤسسية هائلة، واستخدام واسع للعملات المستقرة (stablecoins) في التحويلات والتجارة. إذا تحقق هذا، قد نشهد سوقاً يتراوح حجمه بين 120 و160 مليار دولار. واللافت أن أحمد عزام يميل إلى ترجيح هذا السيناريو المتفائل، مستنداً في ذلك إلى الانتشار المتزايد للعملات الرقمية المدعومة بالدولار في التحويلات العابرة للحدود، واعتماد البنوك المحلية والدولية لـ”ودائع مُرمّزة” لتسويات فورية، ونجاح مشاريع العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC) وربطها بالممرات الإقليمية.
هل الإمارات وحيدة في هذا المضمار الإقليمي؟ لا طبعاً. المنافسة على أشدها، وإن كانت الإمارات لا تزال في الصدارة الشاملة، سواء من حيث التنظيم أو تمركز الشركات. عزام يرى أن البحرين تقترب تنظيمياً، وتمتلك ميزة “سهولة الامتثال” التي جذبت شركات إقليمية. أما السعودية، فتحمل ورقة الهيمنة إذا قررت فتح تداول التجزئة مستقبلاً، بينما سلطنة عُمان تضخ استثمارات كبيرة في البنية التحتية لتعدين البيتكوين، وتركيزها الأكبر على قوة الحوسبة قبل التداول. وحتى المغرب، بات على أعتاب تشريع ينظم عمليات تداول الأصول المشفرة. يعني كل واحد بيحاول ياخد نصيبه من الكعكة الرقمية دي.
ولكن السؤال الأكبر الذي يشغل بال الكثيرين، هل نحن أمام نهاية عصر الدولار وهيمنته، نحو اقتصاد رقمي متكامل؟ محمد أبو خضرة، رئيس شركة “آبيفاي مصر” ورائد الأعمال، يرى أن الإمارات تتجه بقوة نحو استبدال العملات الرقمية بالنقد، ويتوقع أن يحل الدرهم الرقمي محل الدرهم التقليدي خلال أعوام قليلة. هو يرى أننا أمام تحولات جذرية لملامح الاقتصاد عالمياً وإقليمياً، وأن مستقبل الاقتصاد العالمي لن يرتبط لا بالذهب ولا بالدولار، بل بعملات رقمية مرتبطة بأصول جديدة تماماً وغير تقليدية.
لكن أحمد عزام يقدم رؤية أكثر دقة وربما أكثر واقعية لهذه التحولات. هو يرى أن التحول الجاري هو “رقمنة للنظام” أكثر منه “إزاحة للدولار”. لماذا؟ لأن معظم أحجام العملات الرقمية مسعرة بالدولار أصلاً، مما يجعل القناة الرقمية تعزز دور الدولار على المدى القريب. يتوقع عزام أنه حتى عام 2030، سنرى ظهور عملات رقمية للبنوك المركزية في دول عدة، وودائع مرمزة وتسويات آنية على شبكات مرخصة ضمن المصارف، بالإضافة إلى ترميز لأصول حقيقية تشمل سندات وخزائن وعقارات. فهل يعني هذا نهاية الدولار؟ يجيب عزام بحسم: “لا. في هذا العقد، المرجح أننا ننتقل إلى طبقات دفع وتسوية رقمية فوق بنية الدولار وليس بديلاً منه”. أي تزحزح بنيوي حقيقي عن الدولار يحتاج سوق طاقة وتسعير تجارة بعملات بديلة وبحار سيولة تقارن بوول ستريت، وهذا، حسب قوله، خارج أفق 2030 على الأرجح.
في الختام، ما نشهده في الإمارات ليس مجرد تطور اقتصادي، بل ثورة هادئة تُعيد تعريف مفهوم المال والاقتصاد بأكمله. إنها قصة دولة تدرك أن المستقبل ملك لمن يجرؤ على الابتكار، وأن تبني التقنيات الحديثة ليس خياراً، بل ضرورة للبقاء في صدارة السباق العالمي. فهل أنت مستعد لهذا التحول؟ وهل تتخيل أن يصبح هاتفك الذكي، بكل ما فيه من تطبيقات رقمية، هو بنكك، ومحفظتك، ومستقبلك المالي؟ سؤال يستحق التأمل، بينما يستمر هذا البلد الطموح في رسم ملامح عصر جديد لا يعرف المستحيل.