هل سمعت يومًا عن قادة الأوركسترا العالمية؟ هكذا هم محافظو البنوك المركزية حول العالم، كل منهم يمسك بعصاه السحرية، محاولًا ضبط إيقاع الاقتصاد لئلا يخرج عن اللحن. وفي الأسبوع الماضي، شهدت ساحات السياسة النقدية قرارات حاسمة، كانت بمثابة نوتات موسيقية جديدة، أعادت تشكيل بعض الشيء من المشهد الاقتصادي العالمي. فمن خفض أسعار الفائدة في واشنطن وأوتاوا، إلى تثبيت في لندن، وتحديات نمو في بكين، كانت البوصلة الاقتصادية تدور في اتجاهات مختلفة، لترسم لوحة معقدة للتوازنات المالية والنقدية وتتركنا نتساءل: إلى أين تتجه سفينة الاقتصاد العالمي؟
نبدأ رحلتنا من أمريكا الشمالية، وتحديدًا من مقر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي فاجأ البعض بخطوة جريئة طال انتظارها. للمرة الأولى هذا العام، وبعد خمسة اجتماعات متتالية حافظ فيها على سياسة نقدية ثابتة، قرر الفيدرالي خفض أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار 25 نقطة أساس، لتصبح ضمن نطاق 4.00 – 4.25%. يا ترى إيه اللي حصل عشان يغيروا رأيهم فجأة؟ ببساطة، كانت الأرقام تتحدث عن نفسها. ففي الوقت الذي استقر فيه معدل التضخم، قياسًا بمؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، عند 2.6% في يوليو، كانت سوق العمل تبعث بإشارات ضعف واضحة، حيث ارتفع معدل البطالة إلى 4.3%، وتباطأ نمو الوظائف ليصبح دون مستوى التوظيف الكامل. هذا القرار لم يكن إجماعياً تماماً، فقد صوت 11 عضوًا لصالح الخفض مقابل صوت واحد معارض، ما يعكس وجود وجهات نظر متباينة حول مدى الحاجة لهذه الخطوة الآن.
ولم يكتفِ الفيدرالي بهذا القرار، بل أشارت التقديرات المحدثة، المعروفة بـ “المخطط البياني النُّقطي”، إلى توقع خفضين إضافيين لأسعار الفائدة، كل منهما بمقدار ربع نقطة أساس، خلال عام 2025. يعني القصة مش مجرد خفض واحد وخلاص، دي بداية لسلسلة محتملة من التيسير النقدي لدعم النشاط الاقتصادي. وعلى صعيد العملات، أنهى مؤشر الدولار الأمريكي تعاملات الأسبوع عند مستوى 97.644. لم تكن الولايات المتحدة وحدها من اتخذت قرار الخفض، فجارتها الشمالية، كندا، سلكت دربًا مشابهًا. فقد أقدم بنك كندا على تخفيض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس أيضًا، لتصل إلى 2.50%. وما الذي دفعهم لذلك؟ كانت الصورة الاقتصادية لديهم أكثر قتامة، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني من العام بنسبة -1.6% على أساس سنوي، وارتفع معدل البطالة إلى 7.1%. والأسواق حاليًا تسعر خفضًا آخر للفائدة الكندية بحلول ديسمبر، مع استقرار تداولات الدولار الأمريكي أمام نظيره الكندي بالقرب من مستوى 1.38.
ومن أمريكا الشمالية، نحلق شرقًا إلى القارة العجوز، أوروبا، حيث تباينت المشاهد الاقتصادية. في ألمانيا، أكبر اقتصادات اليورو، تحسنت قراءة مؤشر ZEW لمعنويات الاقتصاد الألماني إلى 37.3، وهو ما يعطي بصيص أمل بأن الأسوأ قد ولى. لكن في المقابل، تراجعت قراءة مؤشر الظروف الحالية بشدة لتصل إلى -76.4، ما يعني إن فيه أمل في المستقبل بس الوضع الحالي مش تمام خالص. هذا التباين يؤكد استمرار الهشاشة الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة، حيث لم تتعافَ بعد بشكل كامل من التحديات الأخيرة.
أما في المملكة المتحدة، فقد اتخذ بنك إنجلترا قرارًا مغايرًا تمامًا، حيث أبقى أسعار الفائدة دون تغيير عند 4%، وذلك بأغلبية 7 أصوات مقابل صوتين. لماذا لم يخفضوا الفائدة إذن؟ لأن التضخم لا يزال عنيدًا، حيث بلغ 3.8%، وفي نفس الوقت تباطأ نمو الأجور إلى 4.8% على أساس سنوي. يعني الميزان لسه مش مظبوط، فالبنك يخشى أن يؤدي أي تخفيف للسياسة النقدية إلى إعادة إشعال فتيل التضخم.
ولم يكتفِ بنك إنجلترا بتثبيت الفائدة، بل قام أيضًا بتعديل برنامج التشديد الكمي لديه. فبدلاً من تقليص ميزانيته بـ 100 مليار جنيه إسترليني، قرر تقليص الوتيرة إلى 70 مليار جنيه إسترليني فقط خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة. وهذا التعديل، بالإضافة إلى إعادة هيكلة البرنامج، يهدف إلى تجنب فرض المزيد من الضغوط على شريحة السندات الحكومية طويلة الأجل، وهو قرار حكيم لتفادي أي ارتباك في السوق قد يزعزع الاستقرار المالي. وعلى صعيد آخر، استغلت بريطانيا زيارة رسمية أخيرة لتأمين تعهدات باستثمارات أمريكية ضخمة، بلغت قيمتها 250 مليار جنيه إسترليني (ما يعادل 338 مليار دولار). طبعًا ده مبلغ مش قليل خالص ويساعد الاقتصاد في لحظة حرجة زي دي، بس ده ما منعش استمرار الخلافات الجمركية بين البلدين، زي ما بنقول “الخلافات موجودة بس الشغل ماشي”. وفي ختام الأسبوع، استقر سعر صرف اليورو أمام الدولار الأمريكي عند 1.1745، والجنيه الإسترليني عند 1.3471.
ننتقل الآن إلى آسيا والمحيط الهادئ، وتحديدًا العملاق الصيني، الذي قدم بيانات اقتصادية أضعف مما كان متوقعًا، مما أثار بعض القلق حول مسار نموه. فنمو الإنتاج الصناعي تباطأ إلى 5.2%، ومبيعات التجزئة كذلك إلى 3.4%، بينما تراجع الاستثمار في الأصول الثابتة ليلامس 0.5% فقط. ومش بس كده، ارتفع معدل البطالة إلى 5.3%، وهي كلها مؤشرات تبرز المخاطر السلبية على تحقيق المستوى المستهدف للنمو البالغ 5%. يعني الموضوع محتاج وقفة ومراجعة حقيقية لسياسات بكين الاقتصادية، فالتباطؤ في ثاني أكبر اقتصاد عالمي له ارتدادات على الجميع. هذه التحديات تنعكس على العملة، فقد أنهى الدولار الأمريكي تعاملات الأسبوع أمام اليوان الصيني عند 7.1182. وفي أستراليا، كانت الصورة مغايرة بعض الشيء، فقد استقر معدل البطالة عند 4.2% في أغسطس، وهو ما دعم التوقعات بالإبقاء على سعر الفائدة عند 3.6% في الاجتماع المقبل للبنك الاحتياطي الأسترالي.
إذًا، ماذا تخبرنا هذه الجولة العالمية السريعة؟ إنها ليست قصة واحدة موحدة، بل مزيج من التحديات والفرص، والقرارات المتناقضة أحيانًا، التي تتخذها البنوك المركزية وهي تحاول جاهدة أن تدير دفة الاقتصاد في خضم رياح متقلبة. فبينما يرى البعض ضرورة التيسير النقدي لدعم النمو المتعثر، يرى آخرون أن التضخم لا يزال شبحًا يجب مواجهته بصلابة. وهذه التحديات، عزيزي القارئ، ليست مجرد أرقام تُعلن في نشرات الأخبار، بل هي قرارات تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على حياتنا اليومية: على فرص العمل المتاحة، وعلى تكلفة الاقتراض لشراء منزل أو سيارة، وحتى على أسعار المنتجات التي نشتريها من المتاجر. السؤال الأهم هو: هل ستنجح هذه البنوك المركزية في الوصول إلى “المنطقة الذهبية” حيث النمو مستقر والتضخم تحت السيطرة؟ أم أننا سنشهد المزيد من التقلبات والقرارات المفاجئة؟ إنها معركة مستمرة، تتطلب يقظة ومراقبة دقيقة لكل نبضة اقتصادية عالمية. ففي عالم مترابط كهذا، لا يمكن لأي اقتصاد أن يعيش بمعزل عن الآخر.