هل بحثت يومًا عن شقة للإيجار في القاهرة، أو حتى فكرت في الانتقال إلى مدينة جديدة بحثًا عن مسكن أفضل؟ إذا كانت إجابتك نعم، فأنت لست وحدك في هذا الماراثون العقاري المليء بالخيارات والتحديات. ففي مصر، ومع التوسع العمراني السريع والمتغيرات الاقتصادية المتلاحقة، يصبح فهم نبض سوق الإيجارات أمرًا بالغ الأهمية لكل من يبحث عن سقف يأويه أو يرغب في استثمار مجدٍ. مؤخرًا، ألقى التقرير السنوي لمنصة “عقارماب” لعام 2024 ضوءًا كاشفًا على هذا المشهد المعقد، ليقدم لنا خارطة طريق واضحة المعالم، وأظن أن أبرز ما جاء فيه سيصدم البعض ويؤكد لآخرين ما كانوا يشعرون به بالفعل.
ولأن الأرقام لا تكذب أبدًا، فقد جاءت القاهرة الجديدة لتتربع على عرش سوق الإيجارات بلا منازع. تخيل معي، هذه المنطقة وحدها استحوذت على ما يقارب ربع إجمالي الطلب، بنسبة 25.9%! يا سيدي، هذا رقم مهول ويعكس بجلاء مدى جاذبيتها. لماذا هذا الإقبال الكبير على القاهرة الجديدة بالذات؟ الإجابة تكمن في تنوع كمبونداتها الفاخرة، وتعدد الخيارات السكنية التي تلبي أذواق وميزانيات مختلفة، بالإضافة إلى البنية التحتية المتطورة والخدمات المتكاملة. يعني بصراحة، أصبحت وجهة مفضلة للكثيرين ممن يبحثون عن حياة عصرية ومستوى معيشي مرتفع، سواء كانوا أفرادًا أو عائلات.
ولم يكتفِ التقرير بإبراز نجم القاهرة الجديدة فحسب، بل غاص في تفاصيل أعمق، كاشفًا لنا عن اتجاهات الطلب والعرض، وأنواع العقارات الأكثر بحثًا، والمناطق التي تجذب الباحثين عن الإيجار في شتى بقاع الجمهورية. فإذا نظرنا إلى قائمة المناطق الأكثر طلبًا، نجد إلى جانب القاهرة الجديدة، تبرز العاصمة الإدارية الجديدة والمعادي كوجهتين رئيسيتين، بالإضافة إلى مناطق عريقة تحتفظ برونقها مثل مصر الجديدة و6 أكتوبر والشيخ زايد. ولم ينسَ التقرير الوجهات الساحلية الساحرة كالغردقة وشرم الشيخ، مما يؤكد أن البحث عن الإيجار لا يقتصر على المدن الكبرى فحسب، بل يمتد ليشمل أماكن الهدوء والاستجمام.
ما هي طبيعة هذا الطلب المكثف إذن؟ يؤكد التقرير أن الإيجارات السكنية لا تزال تهيمن على المشهد، مستحوذة على 81% من إجمالي الطلب. وهذا طبيعي، فكل شخص يبحث عن مكان يعيش فيه. لكن الغريب أن الشقق المزودة بحديقة، أي الوحدة الأرضية مع مساحة خضراء خاصة، باتت تجذب 27.2% من اهتمام العملاء! هذا التوجه يكشف عن رغبة متزايدة في الحصول على مساحات مفتوحة ومتنفس طبيعي، خصوصًا بعد الجائحة وتغير أولويات الناس. هل بدأنا نرى الابتعاد عن حياة الصناديق الخرسانية والبحث عن لمسة خضراء؟ يبدو الأمر كذلك.
وعلى الجانب الآخر من المعادلة، أي جانب العرض، تظل الشقق هي العمود الفقري لسوق الإيجار، حيث شكلت نحو 50% من إجمالي الوحدات المعروضة في عام 2024. أما بالنسبة للمحلات التجارية، فقد شهد السوق قفزة مؤقتة في المعروض عام 2022، بالتزامن مع عودة الحياة لطبيعتها بعد جائحة كوفيد-19، قبل أن تتراجع لاحقًا إلى مستوياتها المعتادة، وهو ما يشير إلى نوع من التشبع أو إعادة تقييم للسوق التجاري. الأمر الأكثر إثارة للتساؤل كان حول المكاتب الإدارية، والتي ظلت في نطاق محدود، ربما بسبب انخفاض الطروحات الجديدة، أو بالأحرى تراجع الطلب عليها. فمع انتشار أنماط العمل الهجين والعمل عن بُعد، هل ستدفع هذه الظاهرة المطورين إلى التوجه نحو مساحات العمل المشتركة أو الوحدات الإدارية الأصغر حجمًا بدلاً من المساحات التقليدية الواسعة؟ هذه نقطة تستحق التأمل.
لكن ماذا عن أسعار الإيجارات، تلك القصة التي لا تمل الألسن من ترديدها؟ التقرير كشف عن اتجاه صعودي ملحوظ، وهناك مناطق سجلت قفزات غير عادية. الزمالك، على سبيل المثال، تلك المنطقة الفاخرة بامتياز، شهدت تضاعفًا في متوسط الإيجار الشهري، من حوالي 20 ألف جنيه في 2020 إلى نحو 50 ألف جنيه في 2024! وهذا يعكس بوضوح مكانتها كوجهة راقية وارتفاع الطلب على السكن الفاخر. أما الشيخ زايد، فقد ارتفع متوسط الإيجار فيها إلى حوالي 27 ألف جنيه، مدفوعًا بالنمو السريع في الكمبوندات وشعبية نمط الحياة شبه الحضري. في المقابل، سجلت القاهرة الجديدة والمهندسين زيادات متوسطة ولكنها مستمرة، بينما أظهرت 6 أكتوبر ومدينة نصر زيادات أكثر استقرارًا، ما يدل على مرونة السوق وقدرته على توفير خيارات متنوعة تناسب شرائح مختلفة من حيث الأسعار.
ولكي نثق بهذه الأرقام، من المهم أن نعرف كيف تم جمعها. استند تقرير عقارماب إلى تحليل بيانات أكثر من 1.5 مليون مستخدم وزائر شهريًا لموقعهم وتطبيقهم، بالإضافة إلى أكثر من 400 ألف عقار معروض من شركات تطوير وتسويق وأفراد. كما تضمن التقرير نتائج استبيانات شارك فيها أكثر من 600 مطور ومسوق عقاري، مما يجعله واحدًا من أكثر الدراسات العقارية شمولًا ودقة في السوق المصري. يعني مش أي كلام، دي أرقام مبنية على أساس قوي وتحليلات معمقة.
في النهاية، ما الذي يمكن أن نستخلصه من كل هذه البيانات؟ إن سوق الإيجارات المصري، وعلى رأسه القاهرة الكبرى، ليس مجرد أرقام ترتفع وتنخفض، بل هو انعكاس حي لتطلعات الناس، وللتغيرات المجتمعية والاقتصادية. من البحث عن مساحة خضراء في شقة بحديقة، إلى الارتفاع الصاروخي لأسعار الإيجار في المناطق الفاخرة، كل تفصيلة تحكي قصة. هذه الخارطة العقارية التي قدمها تقرير عقارماب لا تخدم فقط المطورين والمستثمرين، بل تقدم لكل واحد منا، سواء كنت تبحث عن منزل الأحلام، أو تستثمر مدخراتك، رؤية ثاقبة حول أين يتجه سوق الإيجارات. فهل أنت مستعد لهذه التغيرات، وكيف ستتكيف مع نبض هذا السوق المتجدد؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه على الجميع.