في عالم الاقتصاد الذي لا يتوقف عن الدوران، وبينما يتأرجح مصير الملايين على قرارات قليلة تتخذها نخبة من الاقتصاديين، خرج مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بقرار جديد قد يكون له صدى بعيد المدى، ليس فقط في أروقة وول ستريت، بل في جيوب ومحافظ الناس العاديين. الأربعاء الماضي، كانت الأنظار كلها متجهة نحو واشنطن، حيث أعلن “الفيدرالي” عن خفض أسعار الفائدة الرئيسية، ليفتح بذلك الباب أمام تساؤلات كثيرة حول مستقبل الاقتصاد الأميركي ومخاوف تتزايد بشأن سوق العمل.
هذه ليست مجرد أرقام تُعلن في بيان روتيني؛ إنها خطوة محسوبة بعناية فائقة، أتت بأغلبية 11 صوتًا مقابل صوت واحد فقط – إجماع شبه كامل لم يكن متوقعًا تمامًا. لقد صوتت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية على خفض سعر الفائدة الأساسي على الإقراض لليلة واحدة بمقدار ربع نقطة مئوية. يعني إيه الكلام ده ببساطة؟ يعني سعر الفايدة بقى يتراوح بين 4% و 4.25%. بس مش كل الناس كانت متفقة على المقدار ده، لأن الصوت الوحيد المعارض، واللي كان من المحافظ الجديد “ستيفن ميران”، كان بيطالب بخفض أكبر، نص نقطة مئوية كاملة.
فلماذا هذا التباين؟ ولماذا الآن؟ الإجابة تكمن في تقييم دقيق ومرير للواقع الاقتصادي. فالبيان الصادر عن الاجتماع لم يتردد في الإقرار بأن “النشاط الاقتصادي قد تباطأ”، وأن “مكاسب الوظائف تراجعت”، مع الإشارة إلى أن التضخم “ارتفع وظل مرتفعًا إلى حد ما”. تخيل كده إنك بتحاول تمشي على حبل رفيع جدًا، على جانب منه فيه تباطؤ في النمو وتراجع في الوظائف، وعلى الجانب الآخر تضخم بيرتفع. هي دي بالظبط المعادلة الصعبة اللي الفيدرالي بيحاول يلاقي ليها حل، واللي بتضع أهدافه المزدوجة – استقرار الأسعار والتوظيف الكامل – في صراع مباشر.
القرار الأخير لم يكن وحيدًا، بل جاء مصحوبًا بما يُعرف في الأوساط الاقتصادية بمخطط “النقاط” (dot plot)، وهو عبارة عن توقعات كل عضو من أعضاء الفيدرالي لأسعار الفائدة المستقبلية. والمخطط ده أشار إلى تخفيضين إضافيين قادمين قبل نهاية العام، يعني احتمال كبير نشوف تحركات تانية في اجتماعي أكتوبر وديسمبر. بس برضو هنا كان فيه تباين واضح؛ تسعة أعضاء من أصل تسعة عشر كانوا شايفين إن خفض واحد إضافي كفاية، في حين عشرة كانوا مع خفضين. والمفاجأة كانت في عضو واحد – غالبًا ميران – اللي أشار لتخفيض إضافي كبير جدًا ممكن يوصل لـ 1.25 نقطة مئوية هذا العام، وده بيدل على اختلاف عميق في الرؤى داخل اللجنة.
على المدى الأطول، الرؤية كانت أبطأ شوية؛ خفض واحد بس متوقع في 2026، وواحد تاني في 2027، وده أبطأ بكتير من اللي الأسواق بتسعره حاليًا. وده بيقرب الفيدرالي من سعر الفائدة “المحايد” طويل الأجل اللي المفروض يبقى عند 3%. بس حتى هنا، نص أعضاء اللجنة تقريبًا كانوا شايفين إن المعدل المحايد ده ممكن يكون أقل من كده.
لكن ما الذي يجعل هذا الاجتماع مختلفًا هذه المرة؟ إنها الخلفية السياسية الصاخبة التي لم يعتدها الفيدرالي، هذه المؤسسة التي تميل إلى العمل في هدوء بعيدًا عن الضجيج. فمنذ عام مضى، في ظل مخاوف مشابهة من ارتفاع البطالة، أقرّت اللجنة خفضًا كبيرًا بنصف نقطة مئوية. وقتها، وصف “دونالد ترامب”، الرئيس السابق، هذا القرار بأنه “مُسيّس” ويهدف إلى التأثير في الانتخابات الرئاسية. وترامب، اللي كان ضاغط باستمرار على الفيدرالي عشان يخفض أسعار الفائدة بسرعة وقوة أكبر، بيشوف إن الخفض ده ضروري لدعم سوق الإسكان المتعثر وتخفيض تكاليف تمويل الدين الحكومي.
ومع تعيين ميران، اللي يُنظر إليه على نطاق واسع كصوت موالٍ لترامب وداعم لخفض الفائدة بشكل أكبر، تزداد الأسئلة حول استقلالية البنك المركزي عن التأثيرات السياسية. تخيل كده إنك في نص ماتش كرة قدم والجمهور بيضغط على الحكم عشان ياخد قرار معين. ده بالضبط اللي بيحصل لما السياسة بتتدخل بشكل مباشر في قرارات مؤسسة اقتصادية بالغة الأهمية.
وفي سياق سياسي آخر يضيف مزيدًا من التعقيد، شهد هذا الأسبوع تطورًا إضافيًا بعدما منعت محكمة ترامب من إقالة “ليزا كوك”، اللي عينها الرئيس الحالي “جو بايدن”. كوك، اللي كانت متهمة من البيت الأبيض باحتيال في الرهن العقاري (رغم عدم توجيه أي تهم ليها)، انضمت للأغلبية وصوتت لصالح خفض ربع النقطة. ده بيوريك إن ساحة الفيدرالي نفسها بقت مسرح لصراعات سياسية معقدة.
وعلى الرغم من أن مؤشرات النمو الاقتصادي الأخيرة أظهرت صلابة غير متوقعة، وأن إنفاق المستهلكين تجاوز التوقعات، إلا أن سوق العمل ظل هو نقطة القلق الرئيسية. معدل البطالة وصل لـ 4.3% في أغسطس، وهو الأعلى من أكتوبر 2021، بس لسه يعتبر منخفض تاريخيًا. بس المشكلة الحقيقية مش في الرقم ده بس، المشكلة إن خلق الوظائف فضل راكد السنة دي، وتحديث أخير من مكتب إحصاءات العمل كشف إن الاقتصاد خلق مليون وظيفة أقل مما كان مقدرًا. يعني ببساطة، سوق الشغل تعبان شوية. المحافظ “كريستوفر والر”، اللي اسمه مطروح كخليفة محتمل لرئيس الفيدرالي الحالي “جيروم باول”، عبر عن قلقه بالذات من إن الفيدرالي لازم يبدأ في التيسير دلوقتي عشان يتجنب مشاكل أكبر في سوق العمل بعدين.
في النهاية، قرار الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة، ورغم أنه يعكس مخاوف حقيقية بشأن سوق العمل وتباطؤ النمو، إلا أنه يأتي في سياق معقد ومليء بالتحديات السياسية والاقتصادية. هذا القرار ليس مجرد نقطة على الرسم البياني، بل هو محاولة دقيقة للموازنة بين أهداف متناقضة، في محاولة للحفاظ على صحة الاقتصاد الأميركي. وهذا التوازن، الذي يؤثر بشكل مباشر على تكلفة الاقتراض للمنازل والسيارات، وعلى فرص العمل واستقرار الأسعار، هو ما يجعلنا نرقب كل تحرك للفيدرالي، لأنه ببساطة، بيأثر على حياة كل واحد فينا. فهل سينجح الفيدرالي في هذه المهمة الصعبة أم أن الأمواج السياسية والاقتصادية ستكون أقوى من قدرته على الإبحار؟ الأيام القادمة وحدها من ستكشف الإجابة.