مصر: قانون الإيجار القديم يثير مخاوف الملايين.. بين مطرقة الإصلاح وسندان الأزمة المعيشية

شبين الكوم، الدلتا: في شقة متواضعة تعلو أحد مباني مدينة شبين الكوم، تستعيد السيدة مريم علي خليل، أرملة تجاوزت السابعة والسبعين عامًا، ذكريات زمن كانت تدفع فيه 500 جنيه مصري (ما يعادل عشرة دولارات أمريكية آنذاك) كإيجار شهري لمنزلها. مريم، وهي أم لثلاثة أبناء، تمثل شريحة واسعة من المصريين الذين استفادوا على مدى عقود من قانون الإيجار القديم، الذي حافظ على أسعار إيجارات مساكنهم في متناول اليد، ووفر لهم استقرارًا اجتماعيًا واقتصاديًا، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة التي شهدتها البلاد.

لكن هذا الاستقرار النسبي بات مهددًا اليوم، فبعد سنوات من الجدل والنقاش، اتخذت الحكومة المصرية قرارًا بإنهاء العمل بقانون الإيجار القديم، ورفع القيود المفروضة على زيادة الإيجارات. قرار يثير مخاوف مريم، التي تعتمد على معاش زوجها الراحل، والذي يبلغ 9000 جنيه مصري شهريًا، إذ تتساءل عما إذا كان هذا المبلغ سيكفي لتلبية الزيادات المحتملة في الإيجار، والتي قد تفرضها عليها صاحبة العقار. “أيعقل أن نتفاجأ بمثل هذه الإجراءات بعدما عشنا في هذا المكان ما يقرب من نصف قرن؟” تتساءل مريم بأسى.

هذه المخاوف ليست خاصة بمريم وحدها، بل هي هاجس يراود ما لا يقل عن ستة ملايين مصري آخرين، يقطنون في وحدات سكنية خاضعة لقانون الإيجار القديم، في مختلف أنحاء البلاد. هؤلاء يخشون من أن يؤدي تطبيق القانون الجديد إلى عمليات إخلاء جماعية، خاصة وأن بعضهم كان يدفع إيجارات رمزية للغاية، لا تتجاوز الدولار الواحد شهريًا، بموجب القانون الذي يعود إلى حقبة الستينيات وسياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الاشتراكية.

من جهة أخرى، يرى ملاك العقارات أن قانون الإيجار القديم كان مجحفًا بحقهم، إذ منعهم من الاستفادة من القيمة السوقية الحقيقية لعقاراتهم، التي تقع في بعض الأحيان في مواقع متميزة في قلب القاهرة وغيرها من المدن الكبرى. ويشكون من أن العائدات التي يحصلون عليها من الإيجارات القديمة لا تكاد تكفي لتغطية تكاليف الصيانة والتشغيل.

الإصلاح الاقتصادي.. ثمن باهظ؟

يأتي قرار تعديل قانون الإيجار القديم في سياق برنامج إصلاح اقتصادي شامل، تدعمه المؤسسات الدولية، ويهدف إلى تعزيز دور القطاع الخاص وتحفيز الاستثمار، من خلال تخفيف القيود التنظيمية ورفع الدعم الحكومي عن بعض القطاعات. إلا أن هذا البرنامج، الذي صاحبه انخفاض كبير في قيمة العملة المحلية وارتفاع في معدلات التضخم، أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للكثير من المصريين، حتى قبل البدء بتطبيق الزيادات الجديدة في الإيجارات.

وفي ظل هذه الظروف الصعبة، أطلقت الحكومة المصرية مبادرة “سكن لكل المصريين”، وتعهدت بعدم ترك أي مواطن بلا مأوى. وفي هذا الإطار، تعمل الحكومة على تجهيز وحدات سكنية جديدة منخفضة التكلفة، وتشجع المتضررين من تطبيق قانون الإيجار الجديد على التسجيل للحصول عليها بنظام الإيجار أو التملك بالتقسيط المدعوم.

إلا أن منتقدي القانون الجديد يرون أنه صيغ على عجل، بالاعتماد على بيانات قديمة، ما يجعل من الصعب تقدير التداعيات الحقيقية لتطبيقه. ويقول سامر عطا الله، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة: “اعتدنا في مصر ترك المشكلات على حالها لفترة طويلة جدًا، وهذا يزيد جدًا من صعوبة العلاج”.

أرقام مقلقة وتحديات جمة

تشير أحدث البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2017، إلى أن 55% من الأسر التي تستأجر مساكن في منطقتي القاهرة الكبرى والإسكندرية تخضع لنظام “الإيجار القديم”. وبناء على هذه الأرقام، يقدر عدد الوحدات السكنية التي ستتأثر بتعديلات قانون الإيجارات بنحو 1.64 مليون وحدة، بالإضافة إلى 1.4 مليون وحدة غير سكنية.

وبموجب التعديلات الجديدة، سيتم إلغاء عقود الإيجار القديمة بعد فترة سماح مدتها سبع سنوات. وخلال هذه الفترة، سترتفع الإيجارات تدريجيًا، لتصل إلى 20 ضعفًا في المناطق الراقية، على ألا تقل عن ألف جنيه شهريًا في المدن. أما في المناطق منخفضة الدخل، فسترتفع الإيجارات بمعدل عشرة أضعاف. وقد بدأ تطبيق بعض هذه التعديلات اعتبارًا من أغسطس الماضي.

تتزايد المخاوف من أن تؤدي هذه الزيادات إلى تفاقم الأزمة المعيشية، خاصة وأن أسعار الإيجارات في المناطق الحضرية قد ارتفعت بالفعل بشكل حاد خلال العامين الماضيين. ويشكو سكان بعض أحياء القاهرة الكبرى من زيادات تجاوزت 200% في قيمة الإيجار خلال السنوات الأخيرة. ويعزو البعض هذا الارتفاع إلى تدفق الوافدين من دول مجاورة مزقتها الحروب، مثل السودان، ما أدى إلى زيادة الطلب على المساكن وارتفاع الأسعار.

يحذر يحيى شوكت، الباحث المتخصص في المناطق الحضرية والشريك المؤسس لمنظمة “عشرة طوبة” المصرية المتخصصة في دراسات عدم المساواة في السكن والتخطيط الحضري، من أن “المهلة المحددة بسبع سنوات قاسية، لأنها لا تمنح الحكومة وقتًا كافيًا للوفاء بوعدها بعدم ترك أحد”.

في المقابل، تشير الحكومة إلى أنها أنجزت بناء نحو مليون وحدة سكنية لمحدودي ومتوسطي الدخل، بالإضافة إلى 300 ألف وحدة أخرى ضمن خطة لإزالة أكثر من 350 منطقة عشوائية في مختلف أنحاء البلاد، واستحداث أحياء جديدة أكثر أمانًا.

تأتي إصلاحات قانون الإيجارات ضمن حزمة من الملفات الشائكة التي تحاول الحكومة معالجتها تدريجيًا لتفادي أي اضطرابات اجتماعية محتملة. وتشمل هذه الجهود أيضًا خفض الدعم الحكومي، وتنفيذ خطة مدعومة من صندوق النقد الدولي لبيع أصول مملوكة للدولة، وتقليص دور الدولة – بما في ذلك دور المؤسسة العسكرية – في الاقتصاد.

وفي أعقاب حزمة إنقاذ دولية بقيمة 57 مليار دولار حصلت عليها مصر العام الماضي، بدأت الحكومة المصرية تنفيذ إصلاحات هيكلية واسعة، وسط دعوات متزايدة للبحث عن مصادر جديدة للإيرادات.

لكن بالنسبة لمواطنين مثل مريم خليل، تبدو النقاشات حول المكاسب الاقتصادية الكبرى بعيدة كل البعد عن واقعهم اليومي. ففي شيخوختها، يساورها القلق على مستقبل ابنتها البالغة التي لا تزال تقيم معها في المنزل، والتي كانت تعتقد أن هذا المنزل سيوفر لها سقفًا يحميها مدى الحياة، حتى بعد وفاة والدتها. أما اليوم، فكلّ شيء قابل للتغيير، ومستقبلها بات مجهولًا.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.