في عالمٍ تتسارع فيه التحديات الاقتصادية، وتتغير معالم المشهد العالمي باستمرار، يبرز التساؤل: ما هي بوصلة مصر الاقتصادية في هذه المرحلة الدقيقة؟ كيف تتجه سفينة التنمية نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت محور لقاء مفتوح وموسع جمع الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، مع رؤساء تحرير الصحف والمواقع الإلكترونية، لتوضيح ملامح “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”. حديثٌ يكشف، بكل وضوح وشفافية، عن استراتيجية متكاملة لا تترك مجالًا للصدفة، بل ترتكز على رؤية واضحة المعالم.

لم تكن “السردية الوطنية” بديلًا عن “رؤية مصر 2030” كما قد يظن البعض، بالعكس تمامًا. أوضحت الوزيرة أن هذه السردية هي بمثابة المظلة الكبرى التي تحتضن رؤية 2030 وبرنامج الحكومة وجميع الاستراتيجيات القطاعية الأخرى. “يعني تقدر تقول إنها الإطار العام اللي بيربط كل الخطط والأهداف ببعضها بشكل متناسق،” قالت المشاط، مشددة على أنها ثمرة عمل تشاركي مكثف، هدفها الرئيسي تجسيد أولويات المرحلة القادمة وتحويل الطموحات إلى واقع ملموس عبر ربط دقيق بين الخطط التنموية والبرامج التنفيذية والتمويلات المتاحة. وكأنها خريطة طريق مفصلة، تُظهر المسار بدقة، وتُشير إلى المحطات المنتظرة.

ولكي لا تظل هذه الطموحات مجرد حبر على ورق، أكدت الوزيرة على آليات المتابعة الصارمة. فبدءًا من العام المالي الجاري، وتطبيقًا لقانوني التخطيط والمالية العامة، ستشهد البلاد تطبيق “موازنة البرامج والأداء”. هذه الموازنة، التي تمثل نقلة نوعية في إدارة المال العام، تهدف إلى توجيه الموارد المالية نحو أهداف محددة وقابلة للقياس. هل فكرت يومًا كيف يمكن قياس مدى فعالية إنفاق المليارات على قطاعات مثل التعليم أو الصحة أو البنية التحتية؟ هذه الموازنة هي الإجابة، حيث تركز على تحقيق النتائج وتقييم الأداء بشكل ملموس، ما يضمن الاستغلال الأمثل للموارد. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فخطة التنمية للعام المالي 2025/2026 تمثل محطة محورية في استكمال منهجية التخطيط متوسط المدى، تمهيدًا لإعداد خطة وموازنة لثلاث سنوات متتالية اعتبارًا من 2026/2027، في إطار تشريعي وتنظيمي يربط الأداء بالمخصصات المالية، لتعزيز كفاءة الإنفاق العام.

أحد المبادئ الأساسية التي تنطلق منها السردية الوطنية هو أن التنمية الاقتصادية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق دون استقرار اقتصادي كلي. هذا يعني ببساطة، وكما أوضحت الوزيرة، أن السيطرة على التضخم وخفض عجز الموازنة واستدامة الدين العام ليست مجرد أرقام تُذكر في التقارير، بل هي المدخل الرئيسي لتحريك عجلة الاقتصاد الحقيقي وخلق بيئة جاذبة للاستثمار. “طب ما ده منطقي جداً!” تقول الوزيرة، “مين المستثمر اللي ممكن يفكر يضخ فلوس في بلد اقتصادها مش مستقر؟ ومين اللي هيقدر يوفر فرص عمل لو الأسعار بتطير؟” فالاستقرار الاقتصادي هو الأرضية الصلبة التي تُبنى عليها الثقة وتُزرع فيها بذور النمو. ومن خلال السيطرة على التضخم والتوجه نحو التيسير النقدي والالتزام بالانضباط المالي، يمكن توليد الفوائض اللازمة للإنفاق على قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والتنمية البشرية، وهي الركائز الأساسية لجودة حياة المواطن.

الحديث عن جودة حياة المواطن قادنا إلى ملف حيوي لم تغفله الحكومة: القطاع الصحي. أكدت الدكتورة المشاط أن هذا الملف يحظى بأولوية قصوى، حيث شهدت الاستثمارات الموجهة للقطاع في خطة العام المالي الجديد زيادات كبيرة. ولم تتردد الحكومة في تلبية جميع احتياجات وزارة الصحة في الموازنة الجديدة، سواء كان ذلك لتطوير البنية التحتية الصحية، أو لاستكمال منظومة التأمين الصحي الشامل في المحافظات، أو حتى لزيادة الاستثمارات الخضراء في القطاع. “بصراحة، صحة المواطن ملهاش تمن، ودي أولية وطنية لا يمكن التهاون فيها،” علقت الوزيرة، مبرزة الإيمان بأهمية هذا القطاع كقاعدة أساسية لبناء مجتمع صحي ومنتج.

وبالحديث عن الإنتاجية والنمو، لا يمكن إغفال دور القطاع الخاص، الذي يمثل ركيزة محورية في السردية الوطنية. أبدت المشاط جدية الحكومة في تمكين هذا القطاع، مشيرة إلى وثيقة سياسة ملكية الدولة التي تحدد بوضوح القطاعات التي ستتخارج منها الحكومة، فاتحة المجال أمام القطاع الخاص للتوسع والاستثمار. وهذا ليس مجرد وعود، بل هو التزام بتحرير السوق وتقليل المزاحمة، مع تعزيز برامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني كأداة رئيسية لدفع التحول الأخضر وتنفيذ المشروعات الكبرى. الدولة هنا ليست تعمل بمعزل عن شركائها، بل تعول عليهم كقوة دافعة للتنمية، وتسعى لتحقيق وحدة الموازنة العامة للدولة بضم الهيئات الاقتصادية وإعادة هيكلتها لتعظيم الاستفادة من مواردها.

وعلى صعيد العلاقة مع الشركاء الدوليين، تطرقت الوزيرة إلى صندوق النقد الدولي، مؤكدة أن برامجه هي في الأساس برامج وطنية تنبع من أولويات الدولة المصرية واحتياجاتها الفعلية. التعاون مع الصندوق، برأي المشاط، يعزز الثقة في الاقتصاد المصري ويخفض من تكلفة التمويل الخارجي، “لكن السردية الوطنية بتاعتنا مش مرتبطة بوجود الصندوق أو غيابه، دي خطتنا إحنا،” بهذه العبارة لخصت الوزيرة استقلالية القرار الوطني.

ولم تنسَ المشاط محور التنمية الإقليمية وتوطين المشروعات في المحافظات. فالتنمية الاقتصادية، كما أوضحت، لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن المحافظات وأهلها. لذلك، باتت معادلة توزيع الاستثمارات الجديدة مرتبطة بمؤشرات التنافسية لكل محافظة، لضمان عدالة التوزيع وتوجيه الاستثمارات وفقًا للميزات النسبية لكل منطقة. هناك “خريطة متكاملة للتجمعات الصناعية والأنشطة الاقتصادية اللي ممكن تقود النمو في كل محافظة،” ما يضمن أن يشارك الجميع في كعكة التنمية.

وفي خضم كل هذه الجهود، لا يغيب الحوار المجتمعي، فالسردية الوطنية وثيقة مرنة وقابلة للتحديث بإضافة استراتيجيات وملاحظات جديدة من الخبراء والمجتمع المدني والقطاع الخاص، وهو ما يعكس نهجاً تشاركياً يؤمن بالتكامل والشورى.

أما عن التمويل الدولي، فقد أكدت الوزيرة أن مصر أصبحت منصة رئيسية لحشد التمويلات الميسرة، حيث تم إتاحة 16 مليار دولار منذ 2020 من شركاء التنمية لمشروعات البنية التحتية والطاقة والمياه والتحول الأخضر. ولأول مرة، بدأت مؤسسات ثنائية ودولية في تمويل القطاع الخاص المصري بشكل مباشر، ما يعزز دوره الحيوي في الاقتصاد. وبالنظر إلى القطاعات الإنتاجية، تبرز الصناعات التحويلية كقاطرة للتشغيل، تليها الخدمات، مع دعم متزايد للزراعة والاتصالات والسياحة لقدرتها على المساهمة في النمو وخلق الوظائف.

في الختام، شددت الوزيرة على الجهود المستمرة لتعزيز الشفافية والحوكمة، بدءًا من إصدار تقارير ربع سنوية حول تطورات الاقتصاد المصري، وصولًا إلى دمج 59 هيئة اقتصادية في الموازنة العامة لأول مرة، وذلك كله بهدف تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي. السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية ليست مجرد مجموعة من السياسات والأرقام، بل هي رؤية شاملة ترتكز على الاستقرار، وتمكين القطاع الخاص، وتعزيز جودة حياة المواطن، مع بناء جسور الثقة محلياً ودولياً. إنها دعوة للتفاؤل، ومخطط عمل لمستقبل يُصنع اليوم، وتؤمل الأمة في أن يرى الجميع ثماره على أرض الواقع.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.