هل تساءلت يوماً، ونحن نرى مدننا تتمدد وتتغير بوتيرة متسارعة، ما الذي يبقى ليحكي قصة المكان؟ أي بصمة تتركها الأجيال لتخبرنا من نحن كأمة؟ في قلب شبه الجزيرة العربية، حيث تتسارع خطى التنمية الطموحة في كل زاوية، ترتفع الآن مبانٍ لا تسعى فقط لمواكبة المستقبل العالمي، بل لتحتفي بجذور الماضي العريق وتستلهم منه. إنها ليست مجرد حجارة وطين، بل هي قصة السعودية، التي تعيد اكتشاف ذاتها عبر عمارة تحكي حكايات الأرض والإنسان.

في خطوة تُعد محورية ضمن هذه المسيرة الثقافية والعمرانية الطموحة، انطلقت اليوم المرحلة الثانية من تطبيق “تصميم العمارة السعودية”، لتنقل هذا النهج الثقافي الأصيل إلى مشاريع حكومية كبرى ومبانٍ تجارية في سبع مدن حيوية. تخيل معايا كده، شوارع الدمام الساحلية، أبراج الخبر المتطورة، أسواق القطيف التاريخية، كلها هتاخد روح جديدة وشكل مميز يعكس تراثها! القائمة تضم أيضاً حائل بعمارتها الصحراوية الفريدة، والباحة بجمالها الجبلي، والمدينة المنورة بقدسيتها، ونجران بطابعها الجنوبي العريق. هذه المدن تنضم إلى قافلة التغيير بعد النجاح الباهر الذي حققته المرحلة الأولى في أبها، الطائف، والأحساء، مما يبرهن على جدوى المشروع وتأثيره الإيجابي.

هذه ليست مجرد تصاميم عابرة أو مجرد تحديثات شكلية للمباني، بل هي جزء لا يتجزأ من “خريطة العمارة السعودية” الشاملة، التي كان صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- قد أطلقها في شهر مارس الماضي. يعني، الموضوع أكبر من مجرد شكل حلو للمباني، دي رؤية كاملة. الهدف الأساسي من هذه المبادرة الطموحة هو تعزيز الهوية العمرانية للمملكة، التي طالما عانت من غياب طابع موحد يمثلها، إضافة إلى تحسين جودة الحياة للسكان، وتطوير المشهد الحضري بشكل عام ليتواكب مع الطموحات المستقبلية. كل ذلك، طبعاً، يتماشى بانسجام تام مع أهداف رؤية المملكة 2030 الطموحة. فكر فيها، لما تكون مدينتك شكلها مميز وجميل ومعبر عن تاريخها، ده بيأثر على كل حاجة في حياتك من إحساسك بالانتماء إلى تجربتك اليومية.

ما يميز هذه الخريطة، يا صديقي، هو أنها ليست قالبًا واحدًا يُفرض على الجميع. بالعكس تمامًا، هي تحتضن تسعة عشر نمطًا معماريًا فريدًا ومتنوعًا، مستوحى كل منها من الخصائص الجغرافية والثقافية المتفردة لمناطق المملكة الشاسعة والمتنوعة. هل يعقل أن تُبنى عمارة ساحل تبوك بنفس طريقة عمارة جبال السروات الشاهقة؟ طبعاً لا، فلكل منطقة سحرها وطابعها وتحدياتها المناخية التي شكلت فنونها المعمارية على مر العصور. عشان كده، ما ينفعش تبني بيت في جبال السروات بنفس طريقة بيت في واحات الأحساء، صح؟ ده منطقي جداً.

ولدعم هذه الرؤية الطموحة وتجسيدها على أرض الواقع بأقصى درجات الدقة والاحترافية، رافق إطلاق الخريطة تأسيس استوديوهات تصميمية متخصصة. هذه المراكز الفنية، التابعة لهيئات التطوير والمكاتب الاستراتيجية وأمانات المناطق، تلعب دورًا محوريًا في توجيه العملية التصميمية، وتضمن تطبيق هذه الطرز بعمق وحرفية، مع الأخذ في الاعتبار أدق التفاصيل الجمالية والوظيفية. وتبرز هذه الخريطة طرازات معمارية متجذرة في التراث الثقافي والجغرافي لكل مدينة، استنادًا إلى دراسات عمرانية وتاريخية معمقة توثق أساليب البناء التقليدية عبر العصور.

مفهوم العمارة السعودية يتجاوز مجرد إضافة لمسة جمالية للمباني؛ إنه سعي حثيث لإبراز العمارة الأصيلة والمتنوعة في كل بقعة من المملكة، وتعزيزها عبر توجيهات وضوابط تصميمية دقيقة. التحدي هنا يكمن في إيجاد توازن مبدع بين الأصالة التي تروي قصص الأجداد، والحداثة التي تطل على المستقبل بتصاميم معاصرة ومبتكرة. الهدف هو توجيه التصميم العمراني والمعماري نحو حلول مبتكرة ومعاصرة، تعكس قيم المملكة التراثية والجمالية بوضوح، وتخلق بيئة حضرية متطورة لكن بجذور محلية راسخة. هل يمكننا أن نتخيل مدنًا تنبض بالحياة العصرية، وفي الوقت ذاته، تهمس لنا بحكايات الأمس وتاريخ الأجداد؟ هذا هو الرهان الذي تعمل المملكة على تحقيقه.

تُعد هذه الخريطة بمثابة سجلٍ بصري وتوثيق مكاني فريد للعمارة التقليدية، يلقي الضوء على التنوع الهائل الذي يميز كل منطقة بناءً على خصائصها الجغرافية والعمرانية والثقافية، وحتى المناخية. فمن العمارة النجدية بعناصرها الطينية المميزة، ومروراً بطرز ساحل تبوك والمدينة المنورة وريفها، وصولاً إلى عمارة الطائف والحجاز الساحلية، ثم عمارة جبال السروات الشاهقة وأصدار وسفوح وساحل تهامة، وحتى سحر جزر فرسان وواحات الأحساء الساحرة، وعمارة بيشة الصحراوية، ونجران، والقطيف، والساحل الشرقي، والعمارة النجدية الشرقية. باختصار، يعني، الموضوع بيوريك إن السعودية مش حتة واحدة، دي فسيفساء من الجمال والتراث المعماري الأصيل.

تستعرض الخريطة أيضاً أساليب البناء التقليدية، ليس فقط للحفاظ عليها من الاندثار، بل للاستفادة منها واستلهامها في التصاميم الحديثة بطرق عصرية ومبتكرة، مما يضمن استمرارية هذه الطرز المعمارية ضمن المشهد العمراني السعودي بطريقة متجددة. المشروع، الذي أطلقه سمو ولي العهد في عام 2018، لم يكن مجرد فكرة عابرة؛ لقد كان رؤية عميقة للحفاظ على الهوية المعمارية للمملكة، ومشاركة هذا الإرث الحضاري الغني مع العالم بأسره. إنها دعوة للجميع، من المواطنين إلى الزوار والسياح، لاكتشاف جماليات فريدة تحكي قصة أمة بكامل مجدها وتنوعها.

في النهاية، ما الذي يعنيه كل هذا لنا كأفراد ومجتمعات؟ يعني أن بيوتنا، مبانينا الحكومية، شوارعنا، لن تكون مجرد هياكل إسمنتية بلا روح أو هوية. ستكون جزءًا من نسيج ثقافي غني يعكس من نحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نحن ذاهبون. إنها استثمار في الذاكرة الجمعية، وفي الإحساس بالانتماء العميق، وفي جماليات المدن التي نعيشها ونتنفسها كل يوم. فهل هناك أجمل من أن ترى مدينتك ترتدي أبهى حللها، مزينة بتاريخها المتجذر، وعينها على مستقبل مشرق مزدهر؟ هذه العمارة ليست مجرد حجارة وطين؛ إنها قلب نابض يحكي قصة وطن كامل، ويكتب فصول مجد جديد.

اخبار الاستثمار و المال و الاعمال

COOL M3LOMA

الموقع يوفّر تغطية لحظية لآخر أخبار الاستثمار والأسواق المالية محليًا وعالميًا.

يهتم بمتابعة تحركات الذهب والفوركس والعملات الرقمية مع تحليلات خبراء.

يعتبر منصة شاملة تجمع بين الأخبار، التحليلات، والتقارير الاقتصادية لدعم قرارات المستثمرين.