في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتداخل الخيوط الاقتصادية، تظل العملات المشفرة، أو “الكربتو” كما يحلو للبعض تسميتها، سفينة تبحر في محيطٍ متقلب. يوم الجمعة الماضي، شهدت هذه السفينة هزاتٍ قوية كادت أن تغرق بعض أشرعتها، بينما صمدت أخرى بصعوبة، مما دفع الكثيرين للتساؤل: هل هذا التراجع مجرد عاصفة عابرة أم إشارة لتقلباتٍ أكبر قادمة؟
بشكل شبه جماعي، سجلت أغلب العملات الرقمية الرائدة انخفاضاتٍ في قيمتها السوقية، وعلى رأسها بالطبع “البيتكوين”، ملكة العملات المشفرة، التي لم تسلم من هذا التيار الهابط. هذا المشهد المتقلب لم يكن مفاجئًا تمامًا للمتابعين، فهو يأتي في أعقاب قرار هام لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي) خفض سعر الفائدة، وما تبعه من تصريحاتٍ ألمحت إلى مزيدٍ من التيسير النقدي. وكأن السوق كان يستعد لرقصة معقدة بين القرارات الاقتصادية الكبرى وتقلبات الأصول الرقمية.
الفيدرالي يتدخل… والأسواق ترقص على إيقاع جديد
الأربعاء الذي سبق يوم الجمعة المذكور، كان له وقعٌ خاص على الأجندة الاقتصادية العالمية. ففي خطوةٍ كانت متوقعة إلى حد كبير، قرر الفيدرالي الأمريكي تخفيض سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية. هذا القرار، وإن بدا بسيطاً في أرقامه، إلا أنه يحمل في طياته رسالةً واضحة: عزمٌ على خفض تكاليف الاقتراض بشكل تدريجي لبقية العام. طب إيه علاقة ده بالعملات المشفرة؟ هنا تكمن الحيلة.
خبراء الاقتصاد بيسموا اللي حصل ده “قناة العائد البديل”. ببساطة كده، لما الفايدة بتقل، تكلفة الاحتفاظ بأصول زي البيتكوين، اللي هي أصلاً مش بتجيب عائد أو فايدة، بتصبح أقل جاذبية. يعني يا معلم، الفرصة البديلة للاستثمار في حاجات تانية بتدر دخل زي السندات أو الودائع بتقل، فالمستثمرين ممكن يبدأوا يفكروا إنهم يحطوا فلوسهم في البيتكوين والإيثريوم على المدى الطويل، لأن تكلفة إنك ما تاخدش فايدة منهم بقت أقل. ده في النهاية يشجعهم على توسيع مراكزهم الاستثمارية. طيب، لو ده مفروض يكون خبر حلو على المدى الطويل، ليه شفنا هبوط؟ سؤال وجيه جداً، والإجابة معقدة حبتين.
البيتكوين والإيثريوم.. منارة في بحر متلاطم؟
دعنا نلقي نظرة على الأرقام، فهي خير من يروي الحكاية:
- البيتكوين (Bitcoin): شهدت تراجعًا طفيفًا بلغ 0.3%، لتستقر عند مستوى 116,962 دولارًا. وعلى الرغم من هذا الانخفاض اليومي، إلا أنها حافظت على استقرار نسبي لقيمتها السوقية عند 2.33 تريليون دولار، بل إنها أضافت حوالي 1.4% إلى قيمتها على مدار الأسبوع الماضي. يعني مش كل الدنيا غامقة.
- الإيثريوم (Ethereum – ETH): ثاني أكبر العملات، تراجعت بنسبة 0.9%، لتصل إلى 4,548.1 دولار.
- الريبل (XRP): هي الأخرى لم تكن بمنأى عن التراجعات، فقد انخفضت بنسبة 0.9%، لتسجل 3.0523 دولارًا.
- الباينانس كوين (BNB): على عكس التيار، ارتفعت بنسبة 0.2%، لتصل إلى 992.8 دولار.
- سولانا (SOL): سجلت ارتفاعًا طفيفًا أيضًا بنسبة 0.3%، لتبلغ 245.62 دولارًا.
- الدوغكوين (DOGE): عادت للتراجع بنسبة 1.1%، لتصل إلى 0.276966 دولارًا.
هذه الأرقام، بمدها وجزرها، ترسم صورة لحالة من التذبذب المعتدل في أسواق العملات المشفرة. المستثمرون، في جوهرهم، لا يزالون في مرحلة تقييم. بيشوفوا إيه تأثير سياسات الفيدرالي النقدية على الطلب على الأصول الرقمية دي.
نظرة الخبراء: بين التفاؤل الحذر والترقب
يجمع خبراء الأسواق الرقمية على أن قرار الفيدرالي بخفض الفائدة، بالرغم مما قد يبدو عليه من تأثير فوري سلبي، إلا أنه يمثل عامل دعم قوي للعملات المشفرة على المدى الطويل. طيب ليه شفنا هبوط؟ ببساطة، كتير من المستثمرين بيعملوا “جني أرباح” في الفترات دي، يعني بيبيعوا اللي كسبوه، وكمان بيبقوا مستنيين يشوفوا إيه اللي هيحصل تاني في الأسواق العالمية. كأنها استراحة محارب قبل الجولة الجاية.
دور أسعار الفائدة في تحديد “تكلفة الفرصة البديلة” دي حاجة مهمة جدًا. كل ما كانت السيولة العالمية أعلى، وكل ما الفايدة انخفضت زيادة، كل ده هيحفز الاستثمارات طويلة الأجل في عملات زي البيتكوين والإيثريوم. أصل الموضوع كله بيرجع للمقارنة: هل الأفضل أحط فلوسي في حاجة بتجيب فايدة قليلة دلوقتي، ولا أغامر بيها في أصول ممكن قيمتها تعلى جامد؟ لما الفايدة بتقل، خيار المخاطرة بيبقى مغري أكتر.
ماذا يخبئ المستقبل؟
يتوقع المحللون أن تستمر أسواق العملات المشفرة في هذا الرقص المتقلب خلال الأسابيع القادمة. الأنظار كلها هتفضل متجهة لسياسة الفيدرالي الأمريكي، وكمان التطورات الاقتصادية العالمية بشكل عام. التضخم وأسعار الطاقة، اللي هي أساس أي اقتصاد في الدنيا، بتأثر بشكل مباشر على معنويات المستثمرين في الأصول الرقمية. لو الدنيا استقرت وبقى فيه وضوح أكتر، ده هيدي دفعة للسوق. ولو حصل العكس، فالموجة الهابطة ممكن تستمر شوية.
في النهاية، يبدو أن العملات المشفرة ما زالت في رحلتها لترسيخ نفسها كأصول استثمارية جدية، وهي ترتبط بشكل متزايد، شئنا أم أبينا، بقرارات البنوك المركزية والتحولات الاقتصادية الكبرى. فهل ستنجح هذه السفينة الرقمية في شق طريقها بثبات نحو آفاق أوسع، أم أن رياح الاقتصاد التقليدي ستظل تحرك شراعاتها صعودًا وهبوطًا؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.