حسن محمود
في قلب العاصمة الأردنية عمان، حيث يلتقي التاريخ بالحداثة، انطلقت مؤخرًا فعاليات منتدى يطمح لنسج خيوط مستقبل اقتصادي مختلف تمامًا. تحت الرعاية الملكية السامية، استضافت المدينة منتدى “استثمر في الاقتصاد الرقمي” للمرة الثانية على التوالي، محولًا قاعات المؤتمرات إلى ورشة عمل كبرى لبناء الغد. هذا المنتدى، الذي نظمته غرفة تجارة الأردن بالتعاون مع الغرفة الإسلامية للتجارة والتنمية، لم يكن مجرد تجمع تقليدي، بل منصة لتبادل الرؤى حول ما يعتبره الكثيرون محرك العصر الجديد: الاقتصاد الرقمي والتحول الرقمي.
شعار المنتدى “التحول الرقمي من أجل اقتصاد رقمي مستدام” يلخص الطموح الكبير الذي يحمله المشاركون. وكأنهم يقولون: هل نحن مستعدون للقفزة النوعية؟ هل يمكننا أن نحول التحديات الرقمية إلى فرص نمو لا حدود لها؟ الإجابة، كما بدا واضحًا من النقاشات، هي نعم مدوية، لكنها تتطلب عملًا وجهدًا وتنسيقًا لم يسبق له مثيل.
من بين الأصوات التي شدت الانتباه في هذا المحفل، كان صوت وزير الاستثمار الباكستاني، قيصر أحمد شيخ، الذي أتى ليشارك تجربته الثرية. بكلمات واثقة، ألقى الوزير الباكستاني الضوء على تجربة بلاده في ركوب موجة التكنولوجيا. قال إن باكستان تزخر بجامعات رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات، تخرج منها أجيال ساهمت بشكل مباشر وفعال في عملية الرقمنة. وهذا الدعم من الكوادر البشرية مش مجرد كلام نظري، لا خالص، الوزير أكد إن التحول الرقمي ده بيساهم بحوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي لباكستان، وده رقم مش قليل أبداً، وبيوري قد إيه القطاع ده مهم وحيوي.
النقطة الجوهرية التي ركز عليها الوزير شيخ كانت دحض الفكرة الشائعة التي تخيف الكثيرين: أن التطور الرقمي سيقضي على الوظائف. بل على العكس تمامًا، أكد أن الاقتصاد الرقمي ينمو باستمرار، وهذا النمو يخلق فرصًا جديدة لا حصر لها. “يعني بصراحة كده، التطور الرقمي ده هو اللي مكن شبابنا من إنهم يعملوا شركاتهم الخاصة ويوفروا فرص شغل لغيرهم في البلد”، هكذا أوضح الوزير، مستعرضًا في الوقت ذاته التقدم الذي أحرزته باكستان في مجال التعليم الرقمي. الأمر أشبه بأن نقول: هل القلم أتى ليقضي على الحبر؟ أم أنهما يتكاملان لخدمة الهدف الأسمى؟ التكنولوجيا ليست عدوًا، بل شريك تطور.
المناخ الاستثماري في باكستان، بحسب الوزير، يدعم هذه الرؤية. فالقوانين والتشريعات الباكستانية مصممة لتقديم حوافز مغرية للمستثمرين، لضمان أن تبقى البلاد وجهة جاذبة لرؤوس الأموال التي تسعى للاستفادة من هذا الاقتصاد الجديد. وهذا ما يؤكد أن الرقمنة ليست مجرد جانب تقني، بل هي منظومة اقتصادية متكاملة تتطلب بنية تحتية تشريعية واستثمارية قوية.
لكن ما الذي يهدف إليه هذا المنتدى الضخم بالضبط؟ أهدافه تتجاوز مجرد تبادل الخبرات، إنها ترسم خارطة طريق لمستقبل المنطقة بأسرها. المنتدى يسعى لفتح آفاق جديدة للتحول الرقمي ودعم ريادة الأعمال في مجالات التكنولوجيا والابتكار. تخيل معي، كم من الأفكار الخلاقة تظل حبيسة الأدراج لغياب الدعم أو الفرصة؟ هذا المنتدى جاء ليقدم هذه الفرصة. كما يهدف إلى تعزيز الفرص الاستثمارية في الاقتصاد الرقمي، وبناء شراكات دولية قوية تسهم في تطوير بنية تحتية رقمية متقدمة تواكب المتغيرات العالمية. وده شيء مهم جداً، لأننا لو ما واكبناش التطور اللي بيحصل في العالم، ممكن نلاقي نفسنا بنلف في مكاننا.
بشكل أساسي، المنتدى يرمي إلى دفع المنطقة نحو اقتصاد مستدام يطلق العنان لإمكانات شعوبها ويعزز موقعها على خريطة الاقتصاد الرقمي العالمي. تخيل كل هذه العقول، من ممثلين عن الحكومات والوزارات، إلى خبراء وباحثين في الاقتصاد الرقمي، مروراً بممثلي الهيئات الدولية وكبار رجال الأعمال، وصولاً إلى صغار المستثمرين ورواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الحديثة، كلهم يجتمعون تحت سقف واحد. دي مش مجرد مؤتمرات وخلاص، دي خطط لمستقبل كامل، بيتم وضع أسسه في لحظات حوار ومناقشة.
وبالنسبة للأردن، تستضيف المملكة هذا المنترى للمرة الثانية على التوالي ليس بالصدفة، بل سعيًا لترسيخ مكانتها كمركز إقليمي رائد في الاقتصاد الرقمي. تشجيع الاستثمار في قطاعات التحول الرقمي، ودعم الابتكار وريادة الأعمال في الدول الإسلامية، هي كلها نقاط محورية في الأجندة الأردنية. المنتدى أصبح منصة جامعة لصناع القرار والخبراء والمستثمرين لتبادل الرؤى وبناء شراكات استراتيجية في مجالات التكنولوجيا الحديثة. وكأن عمان تقول للعالم: “هنا، نصنع المستقبل الرقمي”.
في الختام، ما شهدته عمان ليس مجرد جلسات حوارية تنتهي بانتهاء اليوم. إنه تجسيد لرؤية عميقة تتطلع إلى اقتصاد رقمي لا يعرف الحدود، يوفر الوظائف، ويدعم التعليم، ويدفع عجلة التنمية. الحديث عن التحول الرقمي لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة قصوى للنمو والازدهار. هذا المنتدى يذكرنا بأن الفرص متاحة لمن يملك الجرأة ليرى ما وراء الأفق التقليدي. فهل نحن، كأفراد ومجتمعات، مستعدون للاستثمار في هذا المستقبل الرقمي، أم أننا سنكتفي بالمشاهدة؟ السؤال مطروح لكل واحد فينا، لأن الاقتصاد الرقمي ده مش هيستنى حد.
