هل تخيلت يوماً أن محفظتك الرقمية قد تحمل عملة تصدرها دولتك، تضمن لك استقرار اليورو المعروف، ولكن بمرونة العالم الرقمي؟ يبدو أن هذا الحلم يقترب من الواقع أكثر من أي وقت مضى، ففي خطوة تاريخية قد تعيد تشكيل المشهد المالي الأوروبي، توصل وزراء مالية منطقة اليورو إلى اتفاق حاسم. هذا الاتفاق لا يمثل مجرد نقطة في مسيرة تطوير “اليورو الرقمي”؛ بل هو دفعة قوية لمشروع طموح يسعى لأن يكون قوة موازية، وربما رادعاً، في وجه هيمنة العملات المستقرة المدعومة بالدولار الأمريكي.
يوم الجمعة، كانت الأجواء مشحونة بالترقب في أروقة مجموعة اليورو، حيث تم الإعلان عن التوصل إلى آلية واضحة لوضع حدود لحيازة “اليورو الرقمي”. يعني إيه الكلام ده؟ يعني، ببساطة كده، اتفاق على سقف المبلغ اللي ممكن أي شخص يمتلكه من العملة دي، وده خطوة جوهرية لتحديد طبيعة العملة ومدى انتشارها. وقد أعرب وزير الاقتصاد الإسباني، كارلوس كوربيو، عن تفاؤله بأن الاتفاق الأوسع على هذه المبادرة، على مستوى دول الاتحاد الأوروبي ككل، قد يصبح حقيقة واقعة بحلول عام 2025. وكأننا نشهد ولادة مرحلة جديدة في عالم المال.
لكن لماذا كل هذا العجلة والاهتمام؟ الأمر يتجاوز مجرد مواكبة التطور التكنولوجي. فالحكاية كلها ليها أبعاد جيوسياسية واقتصادية أعمق بكتير. رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، التي تحدثت في مؤتمر صحفي بكوبنهاغن، وصفت الاتفاق بأنه “خطوة إيجابية في الاتجاه الذي نأمل أن يُستكمل في أسرع وقت ممكن”. والسر يكمن في مخاوف متزايدة لدى القادة الأوروبيين من تعاظم نفوذ العملات المستقرة المدعومة بالدولار الأمريكي، والتي تحظى بدعم قوي من شخصيات مؤثرة كالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. هذه العملات بدأت تكتسب موطئ قدم داخل أوروبا، وهو ما يراه البعض تهديداً للسيادة المالية للمنطقة.
الخطر لا يقتصر على العملات المستقرة فقط، بل يمتد ليشمل الاعتماد المتزايد على شركات المدفوعات الأجنبية العملاقة مثل “فيزا” و”باي بال” في مجال مشتريات التجزئة. هل يعقل أن تعتمد قارة بحجم وتأثير أوروبا على أنظمة دفع خارجة عن سيطرتها في معاملاتها اليومية؟ هذا السؤال يتردد صداه بقوة في فرانكفورت، مقر البنك المركزي الأوروبي، الذي أطلق مبادرة اليورو الرقمي منذ عام 2021، ولا يزال ينتظر الإطار القانوني اللازم للمضي قدماً. من هنا، تأتي أهمية رسالة وزير الاقتصاد الإسباني كوربيو الواضحة: “من الضروري توجيه رسالة سياسية واضحة وقوية تظهر أن هذا المشروع من بين أولوياتنا القصوى”.
المسيرة، وإن كانت واعدة، ليست مفروشة بالورود بالكامل. فرغم هذا الاتفاق المهم بين دول الاتحاد الأوروبي، مازال المشروع بحاجة ماسة إلى مصادقة البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى اتفاق نهائي بين المشرعين والمجلس الأوروبي. وهنا تظهر التحديات الحقيقية. فالقضية تبدو عالقة بعض الشيء في البرلمان، حيث يتمسك “حزب الشعب الأوروبي” بخيار يقوده القطاع الخاص بشكل أكبر. ذهب النائب عن الحزب، ماركوس فيربر، إلى أبعد من ذلك، داعياً هذا الشهر إلى إعادة إطلاق المشروع من الصفر، قائلاً: “تغيرت أمور كثيرة، وعلى البنك المركزي الأوروبي والمفوضية العودة إلى نقطة البداية”. وجهة نظر تستدعي التفكير، أليس كذلك؟
على الجانب الآخر، تبرز مخاوف المصارف التجارية. فالبنوك دي قلقانة من تراجع دورها كوسيط أساسي في المعاملات المالية، ومن احتمالية انتقال الودائع إلى العملة الرقمية الجديدة، حتى مع فرض حدود قصوى على حيازة العملاء، وعدم تقديم “اليورو الرقمي” لأي فوائد على الإيداع. يعني من الآخر كده، شايفين إن الموضوع ممكن يقلل من مكسبهم ودورهم. لاغارد، من جانبها، فضلت عدم الخوض في تفاصيل مستويات السقوف النهائية المحتملة، معتبرة أن “من المبكر” الحديث عنها الآن.
إدراكاً لأهمية الثقة العامة، يسعى البنك المركزي الأوروبي أيضاً لمعالجة واحدة من أكبر المخاوف المرتبطة بالعملات الرقمية: الخصوصية. فكرة أن كل حركة مالية يمكن تتبعها قد تكون مقلقة للكثيرين. لذلك، يعمل البنك على تطوير آليات للمدفوعات دون اتصال بالإنترنت لا يمكن تتبعها، وهو ما سيوفر قدراً من السرية يُقارب التعامل النقدي التقليدي. يا جماعة، حماية خصوصية الناس دي حاجة أساسية، والخطوة دي بتوريهم إن البنك فاهم ده كويس.
قبل اجتماع مجموعة اليورو في العاصمة الدنماركية، ارتفعت الأصوات المطالبة بتسريع وتيرة التحول نحو العملة الرقمية. وزير المالية الألماني، لارس كلينغبايل، قال بوضوح: “أوروبا باتت أكثر ثقة بنفسها، ويجب أن تمضي قدماً في مشروع اليورو الرقمي”. وفي السياق نفسه، دعا المفوض الأوروبي فالديس دومبروفسكيس إلى تسريع الخطى، مشدداً على حاجة القارة إلى تقليص اعتمادها على أنظمة الدفع الأجنبية. حتى وزير المالية البلجيكي، فنسنت فان بيتغيم، عبر عن قناعته بأن المشروع سيشكل إضافة نوعية للمنطقة، قائلاً: “من الضروري أن يضطلع اليورو الرقمي بدور فاعل على الساحة العالمية”.
باختصار، ما نشهده اليوم ليس مجرد نقاش تقني حول عملة جديدة، بل هو جزء من معركة أوسع نطاقاً حول السيادة المالية، الاستقلالية الاقتصادية، ومستقبل أوروبا في عالم تتسارع فيه التحولات الرقمية. اليورو الرقمي ليس مجرد بديل للنقد الملموس، بل هو أداة استراتيجية لتعزيز مكانة أوروبا، وحماية مصالح مواطنيها، وضمان استقرار نظامها المالي في وجه تحديات القرن الحادي والعشرين. فهل سنرى قريباً محفظة كل منا تحمل نسخة رقمية من اليورو، تعكس قوة اقتصاد القارة وتطلعاتها للمستقبل؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤشرات كلها تتجه نحو تحول لا رجعة فيه.