صخب في أسواق المال: هل نحن على أعتاب تحول اقتصادي كبير؟
هل تشعرون بالهواء المختلف الذي يلف أسواق المال هذه الأيام؟ كأن هناك همسة تتسلل بين المتداولين والمحللين، تحمل معها ترقباً ممزوجاً بالحماس لقرارات قد تُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي. الأعين كلها شاخصة نحو واشنطن، حيث يجتمع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي اليوم، في لقاء لا يُتوقع أن يكون عادياً. فالجميع تقريباً يتوقع خطوة جريئة: خفض أسعار الفائدة. وهذا، يا جماعة، ليس مجرد قرار روتيني، بل هو إشارة قوية قد تدشن فصلاً جديداً في قصة الاقتصاد العالمي.
التوقعات تكاد تكون شبه إجماعية بأن الاحتياطي الفيدرالي سيخفض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار ربع نقطة مئوية، أي 0.25%. هذه الخطوة، إذا ما تمت، لن تكون مجرد رقم عابر على شاشات البورصة، بل هي بمثابة نفس منعش للأسواق بعد فترة من التشديد النقدي. وبينما تُهيمن هذه التوقعات على الأجواء، تبرز أقلية صغيرة من المحللين لا تزال تحلم بخفض أكبر، ربما بمقدار نصف نقطة مئوية، وهو ما سيكون “مفاجأة تيسيرية” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد يدفع موجة الصعود الحالية إلى آفاق أبعد بكثير. السؤال الأهم الذي يشغل بال الكثيرين ليس حول خفض اليوم فحسب، بل حول ما إذا كان الفيدرالي سيتبع هذا القرار بخفضين إضافيين قبل نهاية عام 2025. معظم الخبراء يميلون إلى تأكيد ذلك، مما يرسم صورة متفائلة للمستقبل القريب.
هذا الترقب لم يمر مرور الكرام على أداء الأسواق العالمية. بل، وكأنها تحتفل مسبقاً، شهدت مؤشرات الأسهم صعوداً ملحوظاً، مع ارتفاع مؤشر MSCI العالمي ككل. لكن البطل الحقيقي لهذه الرقصة كان الأسواق الأمريكية، التي بدت في حالة نشوة حقيقية. فقد سجل المؤشران الأمريكيان الرئيسيان، مؤشر S&P 500 الأوسع نطاقاً ومؤشر NASDAQ 100 الذي يضم عمالقة التكنولوجيا، مستويات تاريخية جديدة أمس، متجاوزين كل الحواجز السابقة. تخيلوا معي، مؤشر S&P 500 يتخطى عتبة الـ 6600 نقطة لأول مرة في تاريخه! متداولو الاتجاه والزخم، الذين يركبون موجات الصعود، سيجدون في هذه الأرقام دافعاً قوياً لمواصلة عمليات البيع لجني الأرباح بعد هذا الصعود المذهل، ولكن هناك أيضاً من سيرى فيها فرصة للمزيد من المكاسب على المدى الطويل.
لم يقتصر الأمر على الأسهم فحسب؛ فالمعادن الثمينة أيضاً انضمت إلى قافلة الصعود الصاروخي. الذهب، هذا الملاذ الآمن الأبدي، لم يخذل عشاقه، بل قفز بقوة ليسجل مستوى قياسياً جديداً يتجاوز 3700 دولار أمريكي. وبصراحة، مين كان يتوقع الذهب يوصل للأرقام دي بالسرعة دي؟ ده كان حلم بعيد من فترة! أما الفضة، شقيقة الذهب الصغرى، فلم تكن أقل حظاً، محققة مكاسب جديدة لتسجل أعلى مستوى لها في 14 عاماً، لتتجاوز قليلاً عتبة الـ 43 دولاراً. متداولو الاتجاه والزخم، الذين يبحثون دائماً عن الفرص الساخنة، سيظلون مهتمين بالشراء في كل من الذهب والفضة، مع استمرار الزخم الصاعد القوي الذي يميزهما. هذه المعادن، في زمن تتغير فيه قواعد اللعبة الاقتصادية، تظل نقطة جذب لمن يبحث عن تحويط ضد التضخم أو ببساطة، فرصة للربح.
لم يكن الاحتياطي الفيدرالي وحده على وشك اتخاذ خطوة جريئة؛ ففي كندا أيضاً، يترقب الجميع اجتماع بنك كندا لسياساته النقدية اليوم، والذي يُتوقع بقوة أن يُخفض سعر الفائدة بمقدار 0.25%. هذه الخطوة، إن تمت، ستؤكد أن التيسير النقدي ليس مجرد “موضة” أمريكية، بل هو اتجاه عالمي قد تشهده العديد من البنوك المركزية الكبرى، مما يعكس ربما شعوراً عالمياً بضرورة تحفيز النمو الاقتصادي بعد فترات من التحديات.
في غمار هذه التطورات، كانت أسواق العملات الأجنبية (الفوركس) تشهد تحركاتها الخاصة. الفرنك السويسري، على سبيل المثال، كان أضعف العملات الرئيسية منذ افتتاح طوكيو اليوم، في حين كان الجنيه الإسترليني الأقوى. ومع ذلك، فإن النجم الحقيقي في هذا السوق كان زوج اليورو/دولار أمريكي، الذي شهد اختراقاً صاعداً كبيراً أمس، ليغلق على قمة جديدة لم يشهدها منذ أربع سنوات. هذا التحرك القوي سيجذب بالتأكيد اهتمام متداولي الاتجاه والزخم الذين سيرون فيه فرصة للشراء وتتبع هذا الصعود.
وفي خضم هذا الزخم الاقتصادي والمالي، ستصدر اليوم أيضاً بيانات اقتصادية مهمة من عدة دول، بما في ذلك الناتج المحلي الإجمالي البريطاني والنيوزيلندي، بالإضافة إلى معدل البطالة الأسترالي. هذه البيانات، وإن كانت لا تسرق الأضواء بنفس قدر قرارات البنوك المركزية، إلا أنها تظل مؤشرات حيوية على صحة الاقتصادات العالمية وتوفر المزيد من القطع للغز الاقتصادي الكبير الذي نحاول فك شفرته.
ماذا تعني كل هذه الأرقام والقرارات بالنسبة لنا؟ هل نحن على أعتاب عصر ذهبي جديد للاقتصاد العالمي، تُحركه أسعار فائدة منخفضة وسيولة وفيرة؟ أم أن هذه مجرد مرحلة مؤقتة من التفاؤل تسبق تحديات أكبر؟ قرارات البنوك المركزية، وصعود الأسواق، وحركة العملات، كلها قطع في لغز اقتصادي معقد يؤثر على كل جانب من جوانب حياتنا، من تكلفة قروضنا إلى قيمة مدخراتنا واستثماراتنا. هذه ليست مجرد أخبار للمتداولين، بل هي نبض حياة الاقتصاد الذي يؤثر على الجميع. فمع كل خفض لسعر الفائدة، تتقلص تكلفة الاقتراض للشركات والأفراد، مما قد يحفز الاستثمار والإنفاق، ويفتح آفاقاً جديدة للنمو. ولكن في المقابل، قد يثير ذلك مخاوف بشأن عودة التضخم أو فقاعات الأصول.
في نهاية المطاف، الأيام القادمة ستحمل الإجابات. هل ستواصل أسواق الأسهم والذهب تحليقها؟ هل ستمهد قرارات الفيدرالي وبنك كندا الطريق لموجة أوسع من التيسير النقدي حول العالم؟ الوقت وحده كفيل بأن يكشف الستار عن الفصل التالي من هذه القصة الاقتصادية المثيرة. ولكن المؤكد أننا نعيش لحظة فارقة، تستحق منا جميعاً أن نراقبها عن كثب.