هل ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية هي “أرض الفرص” التي ترمز للازدهار بلا حدود؟ أم أن هناك شبحاً جديداً يلوح في الأفق، يهدد بقلب موازين القوة الاقتصادية العالمية؟ في الأشهر الأخيرة، بدأت ترتفع أصوات تحذيرية من قلب العاصمة واشنطن وصولاً إلى بورصة وول ستريت، كلها تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي، هذا العملاق الذي دفع عجلة النمو لعقود، يواجه تحديات غير مسبوقة، لعل أبرزها احتمال الانزلاق نحو ركود اقتصادي يلقي بظلاله على العالم بأسره.
الأمر لا يتعلق بمجرد تنبؤات عابرة أو قراءات سريعة للسوق. نحن نتحدث عن تحذيرات تأتي من جهات ذات ثقل، مثل وحدة التحليلات الاقتصادية والمالية التابعة لوكالة “موديز” للتصنيف الائتماني. هذه المؤسسة العملاقة أطلقت جرس الإنذار، مشيرة إلى أن احتمالية دخول الولايات المتحدة في حالة انكماش اقتصادي خلال الاثني عشر شهراً القادمة قد وصلت إلى مستوى غير مسبوق. تخيل أن الرقم قفز إلى 48% بحلول أغسطس 2025! بصراحة كده، ده رقم بيخلّي الواحد يقلق بجد. هذا المستوى لم يسجل منذ بداية جائحة كوفيد-19 في عام 2020، ولم يُشاهد في الماضي إلا خلال فترات الركود الاقتصادي الفعلية. هل هي مجرد صدفة؟ أم أن التاريخ يعيد نفسه بطريقة أشد قسوة هذه المرة؟
ولكي نفهم حجم الأزمة، دعونا نلقي نظرة على ما يحدث في سوق العمل، الذي يُعتبر دائماً بمثابة “ميزان حرارة” للاقتصاد. فقد كشف مكتب إحصاءات العمل عن تعديل صادم لبياناته، مشيراً إلى أن القطاع الخاص الأمريكي لم يخلق وظائف بقدر ما فقَدَها. التعديل الأخير أظهر خسارة مهولة لـ 910 آلاف وظيفة في القطاع الخاص خلال الأشهر الاثني عشر المنتهية في مارس 2025. يا جماعة، 910 آلاف وظيفة! هذا ليس مجرد رقم على ورقة، بل هو مستقبل آلاف العائلات التي فقدت مصدر دخلها. ويُعد هذا التعديل السلبي الأكبر على الإطلاق في تاريخ البلاد، وهو ما يبعث برسالة واضحة لا لبس فيها حول تدهور حاد في القدرة على توفير فرص عمل مستدامة.
الأمر لا يتوقف عند سوق العمل وحده؛ فثقة المستهلكين، التي تُعد بمثابة المحرك الرئيسي للاقتصاد، تتآكل بشكل مخيف. يكشف استطلاع رأي حديث أن 7 من كل 10 مستهلكين أمريكيين باتوا يعتقدون أن دخلهم لن يكون قادراً على مواكبة الارتفاع المستمر في الأسعار خلال العام أو العامين المقبلين. هذا الإحساس بانخفاض القوة الشرائية، أو بمعنى أدق، إحساسهم بأن الفلوس مبقتش تجيب زي الأول، هو الأعلى منذ ثلاثين عاماً على الأقل. هذه النبرة السلبية تعكس مخاوف عميقة ومتنامية من استمرار التضخم في افتراس مدخراتهم وثرواتهم، حيث وصل الارتفاع المتوقع في الدخل المعدل حسب التضخم إلى أدنى مستوياته منذ سبعينيات القرن الماضي. يعني بصراحة كده، الناس بدأت تحس بالخطر ومش قادرة تشوف أي نور في آخر النفق.
هذه المؤشرات مجتمعة ترسم صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد الأمريكي. هل يمكن لهذا الاقتصاد أن يتجنب السقوط الحر؟ الأسئلة تتوالى: كيف يمكن لواشنطن أن تتصدى لأعباء الدين والعجز المتزايدة؟ وهل يمكنها معالجة مشكلة النمو غير المتوازن بين الولايات المختلفة؟ هذه ليست مجرد مسائل تقنية؛ بل هي قضايا جوهرية تتطلب رؤى اقتصادية جريئة وغير تقليدية. فإذا كان “العم سام” يعاني من حمى اقتصادية كهذه، فمن البديهي أن يشعر باقي العالم بالبرد، خاصة تلك الاقتصادات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة.
في النهاية، ما يواجهه الاقتصاد الأمريكي اليوم ليس مجرد “مطبات هوائية” عابرة، بل يبدو أشبه بعاصفة قادمة تحمل معها تحديات بنيوية عميقة. من التعديلات السلبية غير المسبوقة في أرقام الوظائف، إلى تآكل ثقة المستهلكين وارتفاع احتمالية الركود إلى مستويات تاريخية، يبدو أن الولايات المتحدة تقف عند مفترق طرق اقتصادي حاسم. هل ستنجح في إيجاد حلول مبتكرة لدرء شبح الانكماش؟ أم أننا على وشك مشاهدة تحول كبير في المشهد الاقتصادي العالمي؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالكشف عن مصير هذا العملاق الذي لا يزال يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد العالمي. وعلينا جميعاً أن نراقب بحذر، لأن ما يحدث هناك، بلا شك، سيترك بصماته علينا هنا أيضاً.