في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتغير الموازين الاقتصادية بين عشية وضحاها، يبقى هناك بريق واحد لا يخفت، وملاذٌ آمن لا يفقد جاذبيته أبدًا: الذهب. هذا المعدن الساحر، الذي لطالما أسر القلوب وامتلك مكانة خاصة في تاريخ البشرية وثقافاتها، يعود اليوم ليتصدر واجهة الأحاديث الاقتصادية، مواصلًا رحلة صعوده المدهشة التي بدأت مؤخرًا. فبعد قفزات متتالية حبست الأنفاس، شهد سوق الذهب استقرارًا ملحوظًا في أسعاره المرتفعة يوم الخميس الموافق الثاني من أكتوبر 2025، لتظل محافظة على مكاسبها الأخيرة، وكأنها تستجمع قواها لجولة قادمة، أو ربما تعلن عن مرحلة جديدة من الثبات عند مستويات غير مسبوقة.
فلنتعمق قليلًا في الصورة المحلية، هنا في مصر. يا ترى إيه الحكاية بالظبط؟ استقر سعر جرام الذهب عيار 21، وهو الأكثر تداولًا وشعبية، عند حاجز الـ 5225 جنيهًا للجرام الواحد. رقم كبير، مش كده؟ ناس كتير طبعًا بقوا يتابعوا الأسعار دي كأنها نتايج ماتش مهم، دهبنا المحلي، زي ما بنقول، يعكس جزءًا كبيرًا من حركة السوق العالمي، لكن بتأثيرات إضافية خاصة بنا. هذا الثبات لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لتفاعلات معقدة على الساحة الاقتصادية الدولية، والتي تسببت في موجة صعود قوية للمعدن الأصفر في الأيام القليلة الماضية.
ما الذي دفع هذه الأسعار لتحلق عاليًا بهذا الشكل؟ الإجابة تكمن في قلب الاقتصاد العالمي، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية. أمس، الأربعاء، سجلت أسعار الذهب عالميًا مستويات قياسية جديدة. والسبب الرئيسي؟ ضعف الدولار الأمريكي. آه، صحيح! لما الدولار بيضعف، بيصبح الذهب أكتر جاذبية للمستثمرين اللي بيشوفوا فيه بديل أفضل لحفظ قيمة أموالهم. ليس هذا فحسب، بل تزامن هذا الارتفاع مع تزايد الإقبال على المعدن الأصفر كملاذ آمن بامتياز، خاصة في ظل حالة عدم اليقين التي خلّفها إغلاق الحكومة الأمريكية. هل يعقل أن يؤثر إغلاق حكومة أمريكا على سعر دهبنا هنا؟ آه، طبعًا يؤثر! فالاقتصاديات مترابطة، والذهب هو الترمومتر الذي يقيس درجة حرارة هذا الترابط.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالبيانات الاقتصادية الأمريكية جاءت لتدعم صعود الذهب بشكل أكبر. فقد جاءت أرقام التوظيف مخيبة للآمال، وهذا بحد ذاته يرسل إشارات واضحة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) بضرورة إعادة النظر في سياسته النقدية. هذه البيانات عززت التوقعات بأن المجلس قد يلجأ إلى خفض أسعار الفائدة خلال هذا الشهر. يعني بالبلدي كده، لما الفايدة بتقل، الناس بتشوف إن الدهب أحسن يحوشوا فيه فلوسهم، لأنه بيحتفظ بقيمته وبيعتبر استثمار آمن ومجزي في ظل تراجع عائدات الودائع. وعلى الصعيد العالمي، بلغ سعر الأوقية في العقود الفورية 3863.97 دولارًا، بينما وصلت عقود الذهب الآجلة إلى 3888.87 دولارًا للأوقية.
وبعد أن فهمنا الصورة الكبيرة والتحركات العالمية، دعونا نعود إلى تفاصيل السوق المحلي عندنا. فوفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن شعبة الذهب والمجوهرات، والتي تعتبر المصدر الأكثر موثوقية لمثل هذه المعلومات، استقرت الأسعار على النحو التالي: عيار 24، وهو الأكثر نقاءً، سجل 6100 جنيهًا مصريًا. أما عيار 18، الذي يفضله الكثيرون للمشغولات الذهبية لمرونته وقدرته على التشكيل، فقد حافظ على مستوى 4480 جنيهًا. وبالطبع، عيار 21 الذي ذكرناه سابقًا، ظل عند 5225 جنيهًا للجرام.
ولأن شراء الذهب ليس مجرد سعر جرام، فهناك عنصر آخر مهم يدخل في المعادلة وهو “المصنعية”. أكيد سمعتوا عن حاجة اسمها “المصنعية”، دي بقى اللي بتختلف من تاجر لتاجر ومن صاغة لأخرى، وبتكون قيمة مضافة لسعر الجرام. للجرام الواحد من عيار 21، تتراوح قيمة المصنعية عادة بين 100 و150 جنيهًا. يعني كأنك بتشتري موبايل جديد، فيه سعر للجهاز وفيه سعر لخدمة التوصيل أو الضمان. مش بس كده، كمان سعر الجنيه الذهب المغلف، اللي بيفضل ناس كتير تشتريه كنوع من الاستثمار، سجل 41800 جنيهًا مصريًا.
طيب، وإحنا كمواطنين، إيه اللي نستفيده من كل ده؟ هل هو الوقت المناسب للشراء، أم للبيع؟ الذهب، يا صديقي، هو أكثر من مجرد زينة أو استثمار؛ إنه مؤشر يعكس حالة الاقتصاد الكلي. في أوقات التوتر الجيوسياسي، الأزمات الاقتصادية، أو حتى مجرد ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة العملات، يتجه المستثمرون والأفراد على حد سواء إلى الذهب كدرع واقٍ يحمي مدخراتهم من التآكل. هذه المستويات المرتفعة، وإن كانت تستقر حاليًا، إلا أنها تظل تذكرنا بأننا نعيش في عالم اقتصادي لا يخلو من التحديات، وأن المعدن الأصفر سيظل دائمًا هو الملاذ الذي يلجأ إليه الجميع عند اشتداد العواصف.
في الختام، يبقى الذهب دائمًا هو الملاذ الآمن، البوصلة التي تشير إلى حالة الاقتصاد العالمي وتقلباته. هذه الأسعار الحالية، التي تبدو وكأنها ترسم سقفًا جديدًا، قد تكون إشارة لما هو قادم، أو ربما مجرد وقفة لالتقاط الأنفاس قبل استكمال المسيرة. لكن المؤكد أن الذهب، ببريقه الذي لا يصدأ وقيمته التي لا تموت، سيظل حاضرًا بقوة في معادلاتنا الاقتصادية والشخصية، محتفظًا بمكانته كملك المعادن الثمينة بلا منازع. وما علينا إلا أن نراقب ونفهم، ففي كل حركة لسعر الذهب، قصة اقتصادية جديدة تُروى.