“فقاعة عقارية” – كلمتان تُثيران الرعب في قلوب الملايين، خاصة من يرتبط مستقبلهم بامتلاك منزل أو استثمار عقاري. فكرة انتفاخ غير طبيعي في الأسعار، يتبعه انفجار مدوٍ يترك خلفه خرابًا اقتصاديًا. هذه العبارة تتردد في أروقة النقاشات الاقتصادية المصرية منذ عقود، وكأنها نذير شؤم يطارد القطاع الأهم للمواطن. لكن، هل هذه المخاوف لها أساس من الصحة حقًا؟ وهل نحن على أعتاب انهيار وشيك؟ المهندس طارق شكري، رئيس غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات المصرية، يقطع دابر هذا الجدل بحسم، مؤكداً وبصوتٍ واضح أن “لا فقاعة عقارية في مصر”، وأن هذه الشائعة تتجدد كل بضعة سنوات بلا دليل، منذ أكثر من ربع قرن.
دعونا نفهم أولاً ما تعنيه “الفقاعة العقارية” في جوهرها. الأمر ليس مجرد ارتفاع طبيعي في الأسعار مدفوعاً بزيادة الطلب أو التكاليف، بل هو تضخم غير مبرر، مدفوع عادةً بتوسع مفرط في التمويل العقاري، وكأن الجميع يندفعون لشراء عقار بأي ثمن، مدعومين بقروض سهلة للغاية لا تتماشى مع قدرتهم الحقيقية على السداد. يتذكر الكثيرون الأزمة العالمية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008؛ وقتها، كانت البنوك تمنح قروضاً تصل إلى 105% من قيمة الوحدة، يعني بالبلدي كدا، تاخد الشقة وفوقها فلوس زيادة كمان! أليست هذه وصفة لانفجار مؤجل؟ تحويل هذه القروض المبالغ فيها إلى أوراق مالية متداولة بلا رقيب هو ما أشعل فتيل الكارثة التي هزت العالم أجمع.
لكن الوضع في مصر يختلف جذرياً، وبفارق كبير جداً يجنبنا هذا المصير المشؤوم. إذا نظرنا إلى حجم التمويل العقاري في السوق المصري، سنجد أنه لا يتجاوز 3 إلى 4% من إجمالي حجم السوق بالكامل. والأهم من ذلك، أن 2.5% من هذا التمويل الضئيل موجه بالأساس لمبادرات الإسكان الاجتماعي، لدعم الفئات الأكثر احتياجاً وتوفير سكن لائق لهم. أين هو التضخم المفرط في التمويل هنا؟ لا وجود له. هذا التحليل ليس مجرد رأي فردي، بل جاء مؤكداً من أعلى المستويات الرسمية. ففي اجتماع حديث للجنة الاستشارية للتنمية العمرانية وتصدير العقار، برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، كانت الرسائل واضحة كالشمس: لا فقاعة عقارية في مصر، والقطاع قوي ومستمر، والأهم هو ضرورة التعاون المستمر بين الدولة والقطاع الخاص لتجاوز أي تحديات قد تظهر، ودفع عجلة التنمية قُدمًا.
إذاً، إذا لم تكن الفقاعة هي المشكلة، فما التحدي الحقيقي الذي يواجهه السوق العقاري والمواطن المصري على حد سواء؟ يرى المهندس شكري أن المطورين العقاريين، وفي محاولة لتنشيط المبيعات واستيعاب قدرات المشترين، تحولوا في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه البنوك، مقدمين فترات سداد طويلة الأمد قد تصل إلى 10 و12 سنة، بل وأحياناً أكثر. هذا في ظاهره يبدو حلاً جذّاباً، لكنه لا يعالج جوهر الأزمة بالكامل. المشكلة الأساسية تكمن في قيمة القسط الشهري التي تظل عبئاً ثقيلاً على كاهل الكثيرين، حتى مع طول فترة السداد. فهل يعقل أن نطلب من أسرة ذات دخل محدود أو متوسط أن تدفع آلاف الجنيهات شهرياً لسنوات طويلة، لتفي بالتزاماتها تجاه سكنها؟
من هنا، تقدم المهندس شكري بمقترح جريء ومبتكر خلال اجتماع مجلس الوزراء، يهدف إلى إيجاد حل جذري لهذه المعضلة: تفعيل نظام تمويل عقاري بفائدة مخفضة. الفكرة ببساطة، أن تستفيد الأسرة من هذا التمويل لمرة واحدة في العمر، لوحدة سكنية واحدة، وبفائدة مدعمة تتراوح بين 8 إلى 12%، وهذا الفرق في الفائدة يعتمد على مساحة الوحدة السكنية. فكر معي، الوحدات التي لا تتجاوز 100 متر مربع تحصل على فائدة 8%، وتلك التي تتراوح بين 100 و150 متراً تحصل على 10%، أما الوحدات التي تتعدى 150 متراً مربعاً فتكون فائدتها 12%. إنه مقترح يراعي التفاصيل الدقيقة ويُفصل الدعم حسب الحاجة الفعلية.
لماذا هذا التفريق في الفوائد؟ يوضح شكري أن البعد الاجتماعي هو المحرك الأساسي هنا. المواطن الذي يشتري وحدة صغيرة، غالبًا ما يكون هدفه السكن والاستقرار، وليس المضاربة أو الاستثمار لتحقيق أرباح. وبالتالي، من المنطقي أن يحصل على دعم أكبر عبر فائدة أقل. فهل يعقل أن نساوي بين من يسعى لستر عائلته وتأمين مستقبلها بمن يسعى لتحقيق أرباح رأسمالية سريعة؟ هذا الدعم، ورغم كونه يبدو “خسارة” على الدولة في الميزانية على المدى القصير، إلا أنه في الحقيقة “استثمار” يعود عليها بعوائد مضاعفة. كيف؟ ببساطة، عندما تزيد القدرة الشرائية للمواطن وتتحسن ظروفه السكنية، يتحرك السوق كله. المطورون يتوسعون في مشاريعهم، المصانع تزيد إنتاجها من مواد البناء والأدوات المنزلية، فرص عمل جديدة تُخلق في قطاعات عديدة، وتزداد تحصيلات الضرائب والتأمينات. إنها دائرة نمو متكاملة، يستفيد منها الجميع، وتدفع الاقتصاد للأمام بخطوات واسعة ومستدامة.
هذا المقترح لا يستهدف فقط الطبقات الأقل دخلاً، بل يضع نصب عينيه الطبقة المتوسطة تحديداً، تلك الفئة التي يصفها شكري بأنها “العمود الفقري للمجتمع المصري”. هذه الطبقة، التي تحملت الكثير من الضغوط في السنوات الماضية، هي فئة كريمة لا ترفع صوتها بالشكوى، ولكنها تحتاج إلى حلول عملية وملموسة تعينها على مواجهة تحديات الحياة. آن الأوان أن نوفر لها سبل العيش الكريم والاستقرار السكني بفوائد منطقية ومعقولة. هذه ليست مجرد أمنيات، فقد كشف رئيس غرفة التطوير العقاري عن وعد تلقاه من رئيس مجلس الوزراء بعقد لقاء قريب ومهم مع محافظ البنك المركزي، لمناقشة هذا المقترح بشكل مستفيض. والغرفة، بدورها، أعدت دراسة متكاملة تُثبت الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذا الطرح، بما يضمن تطبيقه بفاعلية.
في النهاية، يبدو جلياً أن الحديث عن “فقاعة عقارية” في مصر ليس سوى سحابة صيف عابرة، تُثار بين الحين والآخر دون سند حقيقي. لكن هذا لا ينفي وجود تحديات، أبرزها كيفية جعل السكن ميسور التكلفة لشريحة أوسع من المجتمع. صحة القطاع العقاري، كما يؤكد الخبراء، هي مرآة تعكس صحة الاقتصاد ككل. فكلما كان هذا القطاع قوياً ومستقراً ومفعماً بالحركة، انعكس ذلك إيجاباً على الاقتصاد الكلي، والعكس صحيح تماماً. وتجدر الإشارة إلى أن الشائعات والمعلومات غير الدقيقة لطالما أدت إلى إرباك السوق وإحداث تباطؤ غير مبرر، كما حدث في فترات سابقة مثل 2001 و2008 و2011، حيث تسبب الخوف في تراجع غير مبرر للمبيعات. فلنتوقف عن ترديد المخاوف التي لا أساس لها، ولنركز بدلاً من ذلك على الحلول البناءة التي تدعم استقرار مجتمعنا ورفاهية أفراده. أليس هذا هو الهدف الأسمى لأي سياسة اقتصادية واجتماعية تسعى لخدمة الوطن والمواطن؟